هذه المظاهر التي ذكرتها من استصغار المعاصي، ونسيان التوبة ، والتمادي في الذنوب، والمعيشة الضنك ، وتبلد الأحاسيس، وقسوة القلب، وجمود الحس ، وموت الروح كل هذه المظاهر من آثار المعاصي، والسبيل إلى الخلاص منها يكون بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى .
الذنوب والمعاصي والتوبة:
يقول الإمام القرطبي :-
قال ﷺ: (إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه). وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة: (أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه). قال: وهو الران الذي ذكره الله في القرآن في قوله: “كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [المطففين: 14]. وقال مجاهد: القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع، ثم يطبع.
قلت: وفي قول مجاهد هذا، وقوله عليه السلام: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) دليل على أن الختم يكون حقيقيا، والله أعلم. وقد قيل: إن القلب يشبه الصنوبرة، وهو يعضد قول مجاهد .
ونقل الإمام الطبري عن الحسن قوله :-
عن الحسن، في قوله: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} قال: الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت. كما نقل عن مجاهد قوله :- قال: العبد يعمل بالذنوب، فتحيط بالقلب، ثم ترتفع، حتى تغشى القلب.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي :–
من أعظم البواعث على التوبة:
-أن يعرف العاصي آثار الذنوب في النفس والحياة.
-ويستحضر أخطار المعاصي في الدنيا والآخرة، فهي خطر على المرء في حياته الروحية والمادية، الفردية والاجتماعية، خطر على عقله وضميره، خطر على نفسه وجسمه، خطر عليه في ذاته وفي أهله وولده، وفي من حوله، خطر على الفرد، وعلى الأسرة، وعلى المجتمع، وعلى الأمة كلها – بل على الإنسانية قاطبة، بل على الإنسان والحيوان والنبات جمعيًا.
-وعلى الإنسان الذي عصى الله عز وجل: أن يعرف ويتذكر ويستحضر عقوبات الله تعالى على المعاصي والذنوب، فقد جرت سنته سبحانه أن يعاقب عليها في الدنيا قبل الآخرة، تنبيهاً للغافلين، وتعليمًا للجاهلين، وتذكرة للناسين.
–وللإمام ابن القيم رحمه الله ورضى عنه: كتاب كامل سماه ” الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ” وقد يطق عليه اسم (الداء والدواء)، وكله في بيان سوء آثار الذنوب والمعاصي، وشؤمها على الإنسان، فردًا ومجتمعًا، في دنياه وآخرته، في مادياته ومعنوياته، في علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بأسرته، وعلاقته بمجتمعه، وعلاقته بالكون من حوله، وعلاقة الناس بعضهم ببعض، وذلك بقلم ابن القيم البليغ، وأسلوبه الأدبي الرفيع.
آثار الذنوب والمعاصي على الإنسان:
ثم ذكر الدكتور يوسف القرضاوي بعضا من هذه الآثار فقال :-
أولا : تعسير الأمور :-
ومنها: تعسير أموره عليه؛ فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه أو متعسرًا عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من أمره يسرًا؛ فمن عطل التقوى جعل له من أمره عسرًا، وبالله العجب ! كيف يجد العبد أبواب الخير والمصالح مسدودة عنه وطرقها معسرة عليه، وهو لا يعلم من أين أتى؟.
ثانيا :- ظلمة القلب:-
ومنها ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم، فتصير ظلمة المعصية لقلبه كالظلمة الحسية لبصره، فإن الطاعة نور، والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته؛ حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، كأعمى خرج في ظلمة الليل يمشى وحده، وتقوى هذه الظلمة حتى تظهر في العين، ثم تقوى حتى تعلو الوجه، وتصير سوادًا فيه يراه كل أحد.
قال عبد الله بن عَبَّاسٍ:: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق “.
ومنها: أن المعاصي وهن القلب والبدن، أما وهنا للقلب فأمر ظاهر، بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية.
وأما وهنها للبدن فإن المؤمن قوته في قلبه، وكلما قوى قلبه قوى بدنه، وأما الفاجر فإنه – وإن كان قوى البدن – فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، وتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم؟.
ثالثا :- إضعاف إرادة الطاعة :-
ومنها – وهو من أخوفها على العبد – أنها تضعف القلب عن إرادته، فتقوى إرادة المعصية، وتضعف إرادة التوبة شيئًا فشيئًا ن إلى أن تنسلخ من قلله إرادة التوبة بالكلية؛ فلو مات نصفه لما تاب إلى الله، فيأتي من الاستغفار وتوبة الكذابين باللسان بشيء كثير، وقلبه معقود بالمعصية، مصر عليها، عازم على مواقعتها متى أمكنه، وهذا من أعظم الأمراض وأقربها إلى الهلاك.
رابعا :- التبجح بالمعصية:-
ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه، وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتك وتمام اللذة؛ حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث لها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان عملت كذا وكذا، وهذا الضرب من الناس لا يعافون، ويسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب، كما قال النبي ﷺ: « كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار: أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله تعالى، فيقول: عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه » (متفق عليه عن أبي هُريرةَ – صحيح الجامع الصغير (4512).
خامسا :- الحرمان من الطاعة :-
ومنها: حرمان الطاعة، فلو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يصد عن طاعة تكون بدله، وتقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة، ثم رابعة وهلم جرا، فينقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها (في هامش الخطية وفي نسخة:
وكم من أكلة منعت أخاها بأكله ساعة أكلات دهر
وكم من إمرىء يسعى لشيء وفيه هلاكه لو كان يدرى).
سادسا :الجر إلى معاصي أُخر :-
ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضًا، حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها، كما قال بعد السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضًا، فإذا عملها قالت الثالثة كذلك، وهلم جرا، فتضاعف الربح، وتزايدت الحسنات، وكذلك جانب السيئات أيضًا، حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة، وملكات ثابتة؛ فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها، فتسكن نسه وتقر عينه، ولو عطل المجرم المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه، وضاق صدره، وأعيت عليه مذاهبه، حتى يعاودها، حتى إن كثيرًا من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها، ولا داعية إليها، إلا لما يجد من الألم بمفارقتها، كما صرح بذلك شيخ القوم الحسن بن هانئ حيث يقول:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها !
وقال آخر:
فكانت دوائي، وهي دائي بعينه كما يتداوى شارب الخمر بالخمر !
ولا يزال العبد يعاني الطاعة ويألفها ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله سبحانه وتعالى برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزًّا. وتحرضه عليها، وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليه.
ولا يزال يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه إليها أزًّا، فالأول قوى جند الطاعة بالمدد، فصاروا من أكبر أعوانه. وهذا قوى جند المعصية بالمدد فكانوا أعوانًا عليه.