إن الله تعالى أباح لنا قصر الصلاة والتيمم والفطر في السفر ، ولم يحدد لنا طول المسافة , فكان مقتضى الظاهر أن تباح هذه الرخص في كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة , ولكن العلماء حاولوا تحديد أقل مسافة لهذه الرخصة بما ورد فيها من قول الشارع أو عمله , فاختلفوا في ذلك على أقوال كثيرة وجعلوا التقدير بالأميال والفراسخ والمراحل , والعبرة عندهم بسير الأثقال المعتدلة ، فمن قطع المسافة المقدرة بأقل من الزمن الذي تقطع فيه بسير الأثقال كان له أن يترخص بلا خلاف , فلا فرق إذن بين قطعها بالقطار وقطعها على فرس سابق.
والحجة هي بإطلاق السفر في الكتاب والسنة مع ما ورد في مسند أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنسًا عن قصر الصلاة فقال : ” كان رسول الله ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ” . ( الشك من شعبة ) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه ، وروى سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد قال : “كان رسول الله ﷺ إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة” ، وقد أقره الحافظ في التلخيص , وهو يؤيد رواية الثلاثة الأميال , وبه أخذ الظاهرية.
وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه ﷺ قال : (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد من مكة إلى عسفان ) ففي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك , ونسبه النووي إلى الكذب , وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه ، فأكثر ما ورد في طول المسافة ثلاثة فراسخ إذا لم نعتبر رواية سعيد بن منصور مرجحة للشق الأول من حديث أنس وإلا فثلاثة أميال , وهو فعل لا ينافي جواز القصر في أقل من ذلك ، وأقل ما ورد في طول المسافة ميل واحد رواه ابن أبي شيبة شيخ البخاري عن ابن عمر بإسناد صحيح , وبه أخذ ابن حزم مع إطلاق السفر في الكتاب والسنة ، وعدم تخصيصه أو تحديده ، ومع كون النبي ﷺ لم يقصر عند خروجه إلى البقيع لأنه أقل من ميل ، وقد يقال : إنه من ضواحي المدينة فالخروج إليه لا يسمى سفرًا .