معروف أن نوحًا عليه السلام دعا قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل، وكان ممّن كفروا به زوجته وابن من أبنائه، وبعد صنع السّفينة وحمل مَن آمن فيها وحصول الطوفان وبعد أن نهى الله نوحًا أن يتشفَّع للكافرين مهما كانت صلة القَرابة بهم( ولا تُخاطِبْني فِي الذِينَ ظَلموا إنّهُمْ مُغرقُونَ ) ( سورة هود : 37 ) حدث أن رأى نوح ولده يغرق وظنَّ أنه من المؤمنين حيث لم يصرح له بالكفر، فدعاه إلى الركوب في السفينة،( ونادَى نوحٌ ابنَه وكان في مَعزِل يا بُنَيَّ ارْكَب مَعَنَا ولا تَكُنْ مَعَ الكافِرينَ ) ( سورة هود : 42 ) فقد قال ( ولا تَكُنْ مَعَ الكافِرينَ ) ولم يقل من الكافرين.
لأنه لو علم بكفره ما ناداه للركوب. وكان ردّ ولده غير صريح في إعلان الكفر، بل فيه اعتماد على نفسِه وقوته وحيلته التي يمكن أن ينجوَ بها من الغَرق:( سآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ) فرد عليه أبوه ( لا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ ) وكانت النتيجة أن حال بينهما الموج فكان من المغرَقين.
ولعدم علم نوح يقينا بكفر ولده سأل ربّه مستوضحًا لماذا أُغرق فقال:( ربِّ إنَّ ابْني من أهلي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ وأنْتَ أحْكمُ الحاكِمينَ ) ( سورة هود : 45 ) فردّ الله عليه بأنه ليس من أهله المؤمنين في الحقيقة وإن كان يبدو له أن مؤمن ( قالَ يا نوحُ إنّه ليس من أهْلِكَ إنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكونَ مِنَ الجَاهِلينَ ) والمعنى أن القرابة المُنجية من العذاب هي قَرابة الإيمان لا قَرابة النسب، وكان عليك أن تتحرّى حال ولدكَ وهو يعيش معك أو قريبًا منك لتتأكد من إيمانه، فإن مقامك غير مقام عامة الناس، وليس قوله له:( إنِّي أعِظُكَ أنْ تكونَ مِن الجَاهِلينَ) وصفًا له بأنّه جاهِل، بل تحذير له أن يكون في المستقبل جاهِلاً ، كما قال الله لسيِّدنا محمد ( فلا تَكونَنَّ مِنَ الجَاهِلينَ ) ( سورة الأنعام : 25 ) وقوله (وادْع إلى ربِّكَ ولا تَكونَنَّ مِنَ المُشرِكينَ ) ( سورة القصص : 87 ) فلم يكن النبي جاهلاً ولا مشركًا حين خاطَبه الله بذلك، وعلى هذه الصورة كان نوح عليه السلام بريئًا ممّا يخالِف عصمة الأنبياء.