الزنا له مراتب أدناها النظر بشهوة عمدًا وأقصاها الفاحشة ، والاستمتاع بما دون الزنا ضار في ذاته ومؤدٍّ إلى الفاحشة حتمًا ، وعلى المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا ينخدع لهواه ويتجرأ على الاستمتاع بغير حليلته الشرعية غشًّا لنفسه بأن هذا مقدمة للزنا ليس فيه كبير ضرر فإن هذا من وسواس الشياطين .

ما المقصود بالزنا وحكم الاستمتاع بما دونه

يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:

روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ؛ فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرِّجْل زناها الخُطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ) وفي رواية لمسلم : ( والفم يزني وزناه القُبل ).

وظاهر أن المراد بالنظر : هو النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة ، والمراد بالبطش : لمسها ، وفي معنى اليد غيرها ، فكل ملامسة محرمة .

فاستمتاع الرجل بغير امرأته محرم كيفما كان ، سواء أنزل أم لم ينزل ، ومقتضى الحديث الصحيح الذي تقدم أن هذا الاستمتاع يسمى زنا ، وأن للزنا مراتب أدناها النظر بشهوة عمدًا وأقصاها الفاحشة الكبرى المعروفة ، وإنما وضع الحد على من انتهى إلى الدرجة القصوى ؛ لأن المضرات البدنية والمدنية والأدبية التي يعاقب الحكام مرتكبيها لا تظهر إلا في هذه الدرجة ، فالنظر مما يكثر وقوعه ، ولا يعرف كونه بشهوة إلا من الناظر ، فترتيب الحد عليه حرج عظيم ؛ لأنه من اللَّمم الذي ترجى مغفرته باجتناب ما وراءه ؛ قال تعالى:[ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ ]( النجم : 32 ) .

وأما اللمس والتقبيل فمضراته في الإصرار ؛ ومنها تجرئة مرتكبه على المحارم إذا لم يبادر إلى التوبة منه ، وهي مضرة روحية لا أثر لها في الأمة – أو في الهيئة الاجتماعية كما يقولون – إلا إذا تعدى الرجل على المرأة أو فعل ذلك بحضور الناس ، ولذلك درجات تختلف باختلاف الأشخاص والمكان والزمان ليس من العدل أن توضع لها عقوبة معينة لا تختلف كما هو معنى الحد ؛ وإنما عقوبتها التعزير الذي يفوض إلى رأي الحاكم ، فعلم من ذلك أن عدم وضع الحد على مثل هذه الأمور ليس دليلاً على إباحتها ولا على كونها هينة عند الله تعالى .

ويتوهم بعض الناس أن ما أشرنا إليه من أنواع الاستمتاع بالنساء دون الوقاع لم يحرم إلا لأنه مقدمة للوقاع الذي تترتب عليه المفاسد الكثيرة ، وإن من وثق بنفسه وقدر على منعها من الوقاع حل له أن يستمتع بالمرأة الأجنبية كما يشاء ؛ إذ لا مفسدة في هذا ( بزعمهم ) ، ومن كان من هؤلاء مجاورًا في الأزهر بعض سنين ، أو متلقيًا شيئًا من كتب الدين يستدل على ذلك بنص [ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ]( النساء : 31 ) ، وبقول بعض الفقهاء : لا كبيرة بما دون الفاحشة الكبرى وهي الوقاع .

وقد كان سألني مشافهة أحد تلامذة المدارس في احد البلاد عن ذلك ، وقال : إن التلامذة وغيرهم من الشبان يعاشرون البنات العذارى ، ويستمتعون منهن بما عدا الفاحشة المبينة فهل يحل ذلك أم يحرم ؟ ! فأجبته بأنني أتعجب أشد التعجب من كون هذا مما يخفى تحريمه على مسلم ويرى أنه مما يستفتى فيه .

نعم ، إنه لم يحرم شيء في الشريعة الإسلامية إلا لأنه ضار بفاعله أو بالناس مباشرة أو مفضٍ إلى الضرر ، وإن استباحة استمتاع الرجال بالنساء فيما دون الوقاع ضار بالمستمتعين والمستمتعات وبغيرهم .

مضار مقدمات الزنا والتفكير فيه

إن لذلك مضرات كثيرة منها :

1- أن هذا الاستمتاع يغري صاحبه بالشهوة ، ويولعه باللذة ، حتى لا يكون له همّ سواها ، فإن من طبيعة نفس الإنسان أنها إذا أخذت بمبادئ الأمر المستلذ بالطبع تتدرج فيه حتى تصل إلى غايته ، وتكون قبل الوصول إلى الغاية في بلبال وهم ، واشتغال فكر وقلب ، وهذا ضرر في نفسه وهو أصل لمضرات أخرى تنشأ عنه كما يعلم مما يأتي .

2- أنه يورث النفس الصغار والضعة ؛ لأن الولوع بملاعبة النساء شر من الولوع بملاعبة الأطفال أو الحمام ، فإن هذه على كونها اشتغالاً بالمحقرات والسفاسف التي تنافي كبر العقل وعزة النفس ليس فيها من الخنوثة ومهانة النفس ما في الولوع بملاعبة النساء .

3- أنه يملك الهوى وحب اللذة زمام الإرادة ، وقلما تجد عند صاحبه عزيمة ثابتة إلا ما عساه يكون في طلب لذته ، ومن يستحل الزنا فيرتكبه عند شدة الداعية إليه في المواخير العامة لا يكون عرضة لهذه الغائلة وما قبلها كالمسترسل في ملاعبة النساء والاستمتاع بهن في غير المسيس ، وإن كان للزنا مضرات أخرى شر منهما .

4- أنه لا بد أن ينتهي أمر هذا الاستمتاع بالفاحشة الكبرى لما فيه من الإلحاح بالإغراء ، والتجرئة على العصيان ، فإن كان الفاسق يستمتع بعذراء يحافظ على شرفها ، ويخشى عاقبة فضيحتها ، وقوي لذلك على ضبط نفسه معها ، فإنه لا بد أن يجمح به سلطان الهوى المطاع إلى غيرها .

5- أن وازع الدين والحياء من الله تعالى يضعف ويضمحل في نفس هذا المستمتع ، وفي ذلك من الضرر الروحاني ما لا محل لشرحه هنا .

6- أن هذا العاصي لسلطان الدين ، الخاضع لسلطان الشهوة ، لا يكتفي غالبًا بالاستمتاع بامرأة واحدة لا سيما إذا كانت الخلوة بها لا تتيسر له دائمًا فهو إذا جاء الوقت تهم به داعية الشهوة بدافع من التأثر والتأثير العصبي فيلتمس غير مَن عرفها أولاً حتى يضيع كثيرًا من وقته ، ويُحرم بذلك من إتقان عمله في معيشته .

7- أن هذا العاصي يُفسد بإسلاس قياده للذة – كثيرًا من النساء وهذا شر في نفسه ، وربما يتولد منه شرور أخرى كالتنازع بين الفاسقين أو بين الفاسق وأقارب المرأة .

8- أن في هذا التنقل في الفسق من إتلاف المال ما يقل عنه كل إتلاف.

9- أن من اعتاد على التنقل في راتع الفسق كثيرًا ما يرغب عن الزواج ويكتفي بالمسافحة أو اتخاذ الأخدان ، وفي ذلك من المفاسد ما فيه وشرحه شرح لمضار الزنا ، وإنما كلامنا في الاستمتاع بما دونه إلى أن يؤدي إليه .

10- أن من اعتاد ذلك يُحرم في الغالب من السعادة البيتية التي ملاكها قناعة كل من الزوجين بالآخر ، ومن تنقّل في راتع الفسق لا يكاد يرضى بمن يتزوج بها لا سيّما إذا اعتاد الاستمتاع بمن هي أجمل منها شكلاً ، أو ألطف في ذوقه دلاً ، وكذلك المرأة ، وناهيك بما في فقد هذه القناعة من ضروب الشقاء ، والجناية على النسل ، فإنه مخرب للبيوت التي تتألف منها الأمة .

جملة القول أن الاستمتاع ضار في ذاته ومؤدٍّ إلى الفاحشة حتمًا ؛ ولكنه شر طريق إليها ؛ لأن من وقع في الفاحشة ابتداءً يوشك أن يدرك قبحها ويتوب منها قبل الاسترسال فيها ؛ ولكن من يقدم لها تلك المقدمة المهيجة فإنه ينغمس فيها حتى يغرق ويكون من الهالكين ، فعلى المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا ينخدع لهواه ويتجرأ على الاستمتاع بغير حليلته الشرعية غشًّا لنفسه بأن هذا مقدمة للزنا ليس فيه كبير ضرر فإن هذا من وسواس الشياطين .