جاء في صحيح البخاري أن رسول الله ﷺ قال : ( إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة ). فالبداية كانت من العبد، وتكون النتيجة أن يبارك الله جهوده وخطواته.
ونحيل المسلم إلى قراءة سورة الواقعة، وسورة الرحمن، فقد ذكرت درجتين للمؤمنين، درجة عالية، ودرجة دونها فلينظر كم كان التفاوت بين المرتبتين.
واعلم أيها المسلم أن الناس متفاوتون، فرجل بألف، ورجل بخف، أي رجل يزن ألف رجل، وآخر يزن خفا ( والخف هو الجوارب).
يقول الشاعر:-
إذا غامرت في أمر مــــروم فلا تقـنع بما دون النجـــــوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
وديننا الحنيف يأمرنا بذلك حيث أن الرسول ﷺ قال: “إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى” ولم يقل الجنة.
وصدق الشاعر حيث قال:
نحن قوم لا توسط بينـــــنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وصدق من قال:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر
وللأسف كثير من الناس يعيش كسائر البشر لا هدف له، بل يفعل مثلما يفعل الآخرين، وقد نهانا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن نكون إمعة إن أحسن الناس أحسنا، وإن أساؤوا أسأنا، فلتكن لنا هويتنا الواضحة، لنكن أشخاصاً لا نبتغي غير العلا، والمناصب الرفيعة، فكما قال أحمد شوقي: “الطير يطير بجناحيه، والمرء يطير بهمته”، فهل هممنا ترقى بنا إلى أعالي الجبال، أم تهوي بنا إلى الأسفل؟
ويقول ابن قيم الجوزية: ” كمال الإنسان بهمة تُرَقِيهِ، وعلمٍ يُبَصِرُهُ ويَهديهِ “.
وقال عبد القادر الكيلاني لغلامه: “يا غلام، لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس وما تنكح، وما تسكن وما تجمع، كل هذا همُ النفس والطبع فأين هم القلب، همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده”.
وقد حثنا الرسول -ﷺ- على التحلي بعلو الهمة حيث قال: ” إن الله – تعالى – يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها.
وقال كذلك: “ إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى “ ولم يقل- صلوات الله وسلامه عليه-: “فاسألوه الجنة”، بل يعلمنا أن نطلب فقط المراتب العالية.
وقد قيل: ” قيمة كل امرئ ما يطلب “
من عوامل علو الهمة :-
1- استشعار مسئولية العبد بين يدي ربه جل وعز .
2- مصاحبة أهل الهمم العالية ، وقديماً قالوا : قل لي من تصاحب أقول لك من أنت ، والصاحب ساحب ، فلا يسحبنك نافخ الكير …
3- التفاؤل فهو عنوان الثقة بموعود الله ، فإن نصرنا الله في أنفسنا نصرنا سبحانه : { إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُُمْ وَيُثَبِتْ أَقْدَامكُمْ }[محمد : 7] .
4- وكذلك : الصبر فإن الصبر عاقبته حسنة ، وإنما العقبى لذي القلب الصبور ، وهو شُجنة من الجهاد .
5- لزوم الإنصاف ، فإنه ديدن أهل الهمم العالية ، فلا يغمطون الناس حقهم ، ولا يرفعونهم فوق قدرهم ، ولكن ينزلون الناس منازلهم ، وهذا منهج .
6- صاحب الهمة العالية دائماً متواضع كنجم لاح لناظرٍ على صفحة الماء، يقول الأول:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو بعيد
وما ازداد عبد تواضعاً إلا ازداد شرفاً ورفعة ، ومحبة في قلوب الخلق .
7- اغتنام الأوقات والفرص الحياتية ، فقد لا تعود ثانية ، وهذا من الفعل الحميد ، والرأي السديد ، والقول الأكيد …
8- الجرأة في الحق والشجاعة على ذلك ، ولا أدلَّ على ذلك من موقف الإمام أحمد ابن حنبل أثناء الفتنة ، فقد جُلدَ ظهره ، وعُرِفَ أمره ، وذاع سرّه ، ولكن ثبَّته الله :{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم : 27] ، فثبت على قول الحق ، فكان بعد ذلك إماماً لأهل السنة والجماعة ، وثبت ابن تيمية وتشجع في قول الحق يوم قال لأحد السلاطين وقد خاف على ملكه من ابن تيمية ، فقال رحمه الله : ( والله ما ملكك وملك آبائك يساوي عندي شيئاً ، إني أريد جنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين ) ، فهل بعد هذا الصدع بالحق من مقال؟ نضّرَ الله سعدك ورحمك ، وغفر لك يا شيخ الإسلام ، بل يُرْفَعُ أحدهم على خشبة المشنقة فيقال له : قل : لا إله إلا الله . فيقول : سبحان الله من أجلها أُشنق … فياله من ثبات ، ويا لها من شجاعة ما بعدها شجاعة ، أورثتها الهمة العالية …
وجماع ما سبق : أن يعقل العبد ويعي لأيّ شيء خُلق ، فقد قال جل وعز :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] ،أي : يوحدون . فبذلك تعتلي همته ويكون ممن يسير على دروب النجاح والفلاح بإذن الله ..
إن الله يحبُّ معالي الأمور وأشرفها ، ويكره دنّيها وسفسافها ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( لا تصغرن هممكم فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم ) اهـ .