الأسباب التي أدت إلى كثرة الطلاق ترجع إلى سببين:
أحدهما: إهمالُ الوصايا الدينية فيما يتعلق بتكوُّن الأسرة وبسلامتها بعد تكونها من الشقاق بين الزوجين، ومعرفة الحقوق والواجبات التي بيَّنتْها الشريعة.
وثانيهما: التزام مذاهبَ معينةٍ في الحكم بوقوع الطلاق، بينما نجد مذاهبَ أخرى قويةً لا ترى وقوعه في كثير من الحالات، أي أنها تُضيق دائرة وُقوعه إلى حدٍّ يجعله، كما شرعه الله، ضرورة لابد منها .
يقول فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق ـ رحمه الله :
في هذه الأيام كثر الكلام حول الطلاق، وشغل الناس بمقترحات لعلاج هذه الظاهرة كادت تمسُّ أصل مشروعية الطلاق، وفي الواقع أن الشريعة الإسلامية حينما أباحت الطلاق نظرتْ إليه كآخر دواءٍ، وذلك بعد أن اتَّخذت من الوسائل الإيجابية ما يقِي الحياة الزوجية شرَّ التدهور والانحلال، وحسُبنا في هذه الظاهرة أن نتفهَّم هذه الوسائل، وأن نأخذ أنفسنا بها، ونُربِّى أبناءنا عليها.
أسباب الطلاق:
ونحن إذا تعرَّفْنا الأسباب الواقعية التي ترجع إليها كثرة الطلاق المزعومة، ثم بذلنا الجهد في القضاء عليها بما وضعتْه الشريعة، لسلِمتِ الأسرةُ مما يُهدِّدها في بقائها وسعادتها، ولسلِمت الشريعة من النقد في تشريع الطلاق، وإنَّ مَن يُمعن النظر في أسباب الطلاق ليَجدُها على كثرتها ترجع إلى سببين رئيسيينِ :
أحدهما :إهمالُ الوصايا الدينية فيما يتعلق بتكوُّن الأسرة وبسلامتها بعد تكونها من الشقاق بين الزوجين .
ثانيهما :التزام مذاهبَ معينةٍ في الحكم بوقوع الطلاق بالنظر إلى ألفاظه وبالنظر إلى الحالة التي يكون عليها الزوجانِ، بينما نجد مذاهبَ أخرى قويةً لا ترى وقوعه في كثير من الحالات ولا بكثير من الألفاظ، أي أنها تُضيق دائرة وُقوعه إلى حدٍّ يجعله، كما شرعه الله، ضرورة لابد منها هي الإنقاذ .
منهج الإسلام في الوقاية من الطلاق:
1–منها ما يرجع إلى اختيار الزوجة، والشريعة تُوصي باختيار ذات الخُلق والدين، وتُحذر من اختيار ذات المال، أو الحسَب لحسبها، أو الجاه لجاهها. ولا ريب أن الزواج الذي يكون أساسه هذه الشئون المادية فقط يتعرض للتدهور حينما يفوت الانتفاع بها.
2-منها ما يرجع إلى أسلوب الخطبة والشريعة توصي برؤية كل من الطرفين لصاحبه على وجه تعرف به الاتجاهات القلبية، وتحذر الاكتفاء بوصف الوسطاء، أو خطبة الخاطبات المُستَأجرات تحذر الإسراف في المخالطة قبل العقد، ولا ريب أن الزواج الذي يكون أساسه المُفاجأة ليلة الزفاف دون رؤية سابقةٍ كما تَطلب الشريعة، أو يكون أساسُه الإسراف في الاختلاط قبل العقد ـ كما تحذر ـ هو زواجٌ كثيرًا ما يتعرض للتدهور والانحلال، ويُرشد إلى ذلك حوادث الخاطبين والمَخطوبات التي نَقرؤها كثيرًا في الصحف ونَسمع عنها في الأُسَر .
3-منها حُسْنُ المعاشرة المُتبادَل بين الزوجين بعد الزفاف، وذلك يكون بقيام كل منهما بحقِّ الآخر، فلا يتزمَّت الزوج في مُعاملة زوجته، ولا يُسرف في إساءة الظن بها إلى أن يُحكم عليها النوافذ والأبواب، ويَمْنَعُهَا حقَّ استنشاق الهواء وزيارة الأرحام. ولا يتحلَّل مِن صيانتها ويترك لها الحبل على الغارِب، فيُبيح لها حضور المَحافل والمُنتديات والمُقابلات والخلوات حسبما تشتهي، وقد يُسرف في هذا الجانب فيُقدمها بنفسه. ولا ريب أن هاتين الخطتين: خطة التزمُّت، وخطة التحلُّل لهما أثرهما السيئ في العلاقة الزوجية، كما نرى ونسمع، فبالتزمت والضغط يحصل الانفجار. وبالتحلُّل يحصل التحوُّل، وتَسُوءُ العلاقة ويثبت الشقاق.
4-منها أن يبتعد عن الزوجين تحكُّم الأهل والأقارب في عاطفة كل منهما نحو صاحبه، ولا ريب أن الحياة الزوجية التي يتحكَّم فيها الأهل، فتُغري الرجل بزوجه أو العكس، تسوء حالها وتتعرض للتدهور والانحلال، وهنا يجب أن يعرف الأهل والأقارب ـ وبخاصة الوالدانِ ـ أن سعادتهم بسعادة أبنائهم، وسعادة أبنائهم بالعمل على تقوية الروابط وتوثيق عُرَى المحبة بينهم، فإذا لم تفهم الأم أو الأب هذه الحقيقة وجَب على الزوجين ألَّا يستمعَا لهما فيما يُغضب الله، وأن ينصحاهما بوقف حمْلاتهما المتكررة المُنكَرة، التي مآلها حتمًا التفريق بينهما وخراب بيتهما .
وملاكُ الأمر في ذلك كله معرفة الحقوق والواجبات التي بيَّنتْها الشريعة، وطلبت تبادلها بين الزوجين، وبين الأسرتين .
وسَبيل ذلك أن تُعْنَى الحكومة ورجال التريبة والتهذيب بتربية النشء على هذه الحقوق وتلك الواجبات، وأن تكون أول ما يغرس في نفوس الأبناء عن طريق البيت، وعن طريق المدرسة، وعن طريق الصحف، وعن طريق الإذاعات، وإذا اتَّخذت هذه الحقوق وتبادُلها أساسًا للحياة الزوجية ـ عن هذا الطريق الذي يغرسها في النفس ـ ظهر أثرها بعدُ في قوة الحياة الزوجية، وسلامتها من التدهور والانحلال، وفي إشاعة المحبة والمودة بين الزوجين وبين الأسرتين.
الأخذ بفتوى العلماء الثقات في مسائل الطلاق:
هذه ناحية : أما الناحية الأخرى، وهي ناحية الفتوى بوقوع الطلاق. أو الحكم بوقوعه، فقد جرينا نحن المُفتين والقضاة على الإفتاء، أو الحكم بوقوع الطلاق على مذاهبَ مُعيَّنةٍ قد تشهد الحُجة القوية لغيرها في عدم وُقوعه. والرأي أنَّا لا نُفتي ولا نَحكم بوُقوع طلاق إلا إذا كان مُجْمَعًا مِن الأئمة على وقوعه، فإن الحياة الزوجية ثابتة بيقينٍ، وما يثبُت لا يُرفع إلا بيقينٍ مثله، ولا يقينَ في طلاقٍ مُختلَف فيه .
وعلى هذا فلا نحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان مرة، مرة، وكان مُنجزًا مقصودًا للتفريق، في طُهر لم يقع فيه طلاق ولا إفضاء، وكان الزوج بحالة تكمل فيها مسئوليته .
وبهذا لا نحكم بوقوع الثلاث دفعةً واحدة إذا قال: أنت طالق ثلاثًا، ولا نحكم بوُقوع الطلاق إذا كان مُعلَّقًا، كأن يقول: إنْ فعلتِ كذا فأنتِ طالق، وهو لا يحب الطلاق ولا يُريده. ولا بوُقوعه في قول اللاعب الهازل مع زوجه أو غيرها: أنت طالق، أو هي طالق. ولا في قول البائع: عليَّ الطلاق أن هذه السلعة بكذا، أو امرأتي طالق إذا لم تكن السلعة من نوع كذا. أو عليَّ الطلاق لابد أن تأكل أو تفعل كذا. ولا يقع والمرأة في حيْض أو نِفاس أو طُهْر اتَّصل بها فيه، ولو أوقع عليها طلاق في طُهر لم يتصل بها فيه، ثم أوقع عليها طلقةً أخرى في الطهر نفسه، لا تقع تلك الطلقة الثانية. وكذلك لا يقع طلاقٌ وهو في حالة سكر أو غضب يملك عليه اختياره .
والذي يُؤسَف له أنه على الرغم من أن قانون المحاكم الشرعية الحالي ألغى وقوع الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث وجعله واحدةً رجعية، وألغى وقوع الطلاق المعلق إذا قُصد به الحمل على فعل شيء أو تركه، فإن أكثر العلماء، أو أكثر المُتصدِّين لفتوى الناس لا يفتون إلا بمذاهبهم الخاصة التي تعلموها ودانوا بها، فضلًا عن الحالات التي لم يأخذ بها القانون، “وترى المذاهب الأخرى عدم الوقوع فيها تضييقًا لدائرة الطلاق بقدر الإمكان.
وكانت النتيجة لموقف هؤلاء المُفتين أن يأخذ المطلق الفتوى بالوقوع عن لسانهم، ويذهب مؤمنًا بها إلى المأذون فيحكي له أنه طلَّق امرأته ثلاثًا، فلْيُبادر إلى إخراج قسيمة الطلاق، وفيها “حضر فلان وأقرَّ بأنه طلَّق زوجته طلاقًا مُكملًا للثلاث” وبهذه الورقة الرسمية تَبِينُ الزوجة من زوجها، ويقع الزوجان في ارتباكٍ، وتتمثَّل أمامهما مشاهد التشرُّد المؤلم للأبناء، وقد أدركهما سوء الحظ بالْتزام الإفْتاء على المذهب المُعيَّن، ثم بهذه الورقة الرسمية التي قد لا يكون لها واقع صحيح .
إلى الفقه الإسلامي الواسع :
هذه هي الحالات والنواحي التي يجدر بالمُصلحين بحثها واستخلاص العلاج منها عن طريق الفقه المأثُور عن أئمتنا، وفيه من اليُسْر ورفع الحرج ما يُحقِّق سماحة الدين، ويُسْر الشريعة، وسيجدون فيه متى حسُن النظر الوقاية الكافية من ظاهرة كثرة الطلاق التي يزعمون ـ بحسب ما يذكرون من أرقام ـ أنها كثرةٌ تُهدِّد حياةَ الأُسر، وليس للأسر ما يُهددها في ظل الفقه الإسلامي الواسع إلا الجهل به، وإهمال الآداب والأخلاق، وإلَّا التَّزمُّت والجُمود على مذاهبَ معينةٍ تتخذ دينًا يُلتزم، وقانونًا يجب التحاكُم إليه، ويَحرم التحاكُم إلى غيره مما صحَّ دليله وقَوِيَتْ حُجَّتُه وفي المتعة التي جعلها الله من أحكام الطلاق إذا كان بباعثٍ من جهة الزوج، وفي الافتداء إذا كان الطلاق بباعث من جهة الزوجة ما يُجلي حقيقة الطلاق وأحكامه في نظر الشريعة الإسلامية، ويجعل خيره أكثر مِن شرِّه.
وإن الحياة الزوجية القائمة في نظر الشريعة على أُسس المودة، والمحبة، والرحمة، لتأْبَى الإباء كله أن تتدخل في حفظها ونظامها كلمة: “عقوبة” فضلًا عن معناها، وستجعلها العقوبة قائمةً على أساس من الإرهاب والخوف، فتُكوِّن مجتمعًا بغيضًا لا خير فيه، وفي جَوِّهِ المُظلم تكثر المكائد والتُّهَم، والإيذاء الخفي، بل لا يعجز الزوج مع هذا أن يُلصق بزوْجه تُهمة الخيانة أمام القاضي؛ ليتخلَّص منها ومن الحُكم بالعقوبة، وفي هذا من التَّشْنيع والتشهير بالأسر ما يربو على ضرر الطلاق وكثرته.
هذا هو الطريق لإصلاح الأُسرة، وهو الطريق الذي رسمه اللهُ لعباده، وبيَّنه في كتابه، وطبَّقه رسوله والأصحاب مِن بعده، فإن لم ينفع كان آخر الأمر: (وإنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كًلًّا مِن سَعَتِهِ وكانَ اللهُ واسِعًا حَكِيمًا).