من ثمار التوكل: العزة، التي يحس بها المتوكل، فترفعه مكاناً علياً، وتمنحه ملكاً كبيراً، بغير عرش ولا تاج، وهي قبس من عزة المتوكَّل عليه، كما قال تعالى: (وتوكل على العزيز الرحيم) (الشعراء: 217)، (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) (الأنفال: 49).
فالمتوكل هنا عزيز بغير عشيرة، غني بغير مال، ملك بغير جنود ولا أتباع .
أجل هو ملك، ولكنه من ملوك الآخرة، لا من ملوك الدنيا. فملوك الدنيا يشعرون بحاجتهم إلى من حولهم من الأتباع والأنصار، كما يشعرون بالخوف على ملكهم أن يزول بالكيد من الداخل، أو بالغزو من الخارج، أو بالموت الذي لا يفرق بين ملك وغيره .
أما ملوك الآخرة فقلوبهم معلقة بالله تعالى، لا يرجون إلا رحمته، ولا يخافون إلا عذابه. فهم كما وصفهم الشاعر:
عبيد، ولكن الملوك عبيدهم وعبدهمو أضحى له الكون خادما!
قال أحد الخلفاء لأحد علماء السلف الصالح يوماً: ارفع إلينا حوائج دنياك نقضها لك!
قال: إني لم أطلبها من الخالق فكيف أطلبها من المخلوق؟!
يريد أن الدنيا أهون عنده من أن يسألها من الله تعالى، فهو إذا سأل ربه يسأله ما هو أعظم وأعلى من الدنيا وهو الآخرة والجنة ورضوان الله تبارك وتعالى .
إن العزة لا تطلب عند أبواب العباد، بل هي لا تطلب إلا من باب واحد ذكره القرآن فقال: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً) (فاطر: 10).
وبيَّن أن طلب العزة من عند غيره إنما هو شأن المنافقين المدخولين في إيمانهم: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً) (النساء: 138، 139).
وروى ابن عطاء الله عن شيخه أبي العباس المرسى أنه سمعه يقول: “والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق”
قال: وكان يقول رحمه الله: “للناس أسباب، وسببنا نحن الإيمان والتقوى .. قال الله سبحانه: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (الأعراف: 96).
يعني: وليس من الإيمان والتقوى مد الأيدي ولا الأعين إلى ما عند الخلق .
قال ابن عطاء الله: “اعلم أن رفع الهمة عن الخلق، شأن أهل الطريق، وصفة أهل التحقيق”
قال: وكان بعض العارفين ينشد :
حــرام على من وحد الله ربه وأفــرده أن يجتدى أحداً رفدا!
ويا صاحبي قف لي مع الحق وقفة أموت بها وجداً، وأحيا بها وجدا!
وقل لملوك الأرض تجهد جهدها فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى!
يقول ابن عطا الله: “ورفع الهمة إنما ينشأ عن صدق الثقة بالله .
وصدق الثقة بالله إنما ينشأ عن الإيمان بالله على سبيل المعاينة والمواجهة فيوجب لهم إيمانهم الاعتزاز بالله، قال الله سبحانه: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (المنافقون: 8).
والنصر من عند الله، قال سبحانه : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) (الروم: 47).
والنجاة من العوارض الصادة عن الله، قال الله سبحانه (كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين) (يونس: 103).
فعز المؤمن بالله ثقته بمولاه، ونصرته على نفسر ومراه، ونجاته من العوارض أن تقطعه عن سبيل هداه .
وشعار أهل الإرادة ودثارهم: الاكتفاء بالله، ورفع الهمة عما سواه، وصيانة ملابس الإيمان من أن تدنس بالميل إلى الأكوان، والطمع في غير الملك المنان.
ولنا في هذا المعنى :
الله يعــلم أنني ذو همـــة تــأبى الدنايا عفة وتطرفـــا
لم لا أصون على الورى ديباجتي وأريهمو عز الملوك وأشرفـــا؟
أأريهمــو أني الفقير إليهمــو وجميعــهم لا يستطيع تصرفـا؟
أم كيف أسأل رزقه من خلقـه؟ هذا -لعمري إن فعلت- هو الجفا
شكوى الضعيف إلى ضعيف مثله عجــز أقام بحامليه على شفـا
فاسترزق الله الذي إحسانــه عــم البرية منة وتعطفــــا
والجــأ إليه تجده فيما ترتجي لا تعــد عن أبوابه متحرفــا
والذي يوجب رفع الهمة عما سوى الله: العلم بأنه لم يخرجنا إلى مملكته إلا وقد كفانا، ومنحنا وأعطانا، ولم يبق لنا حاجة عند غيره”.
ومن أقوال ابن عطاء الله هنا:
“قبيح منك أن تكون في دار ضيافته، وتوجه وجه طمعك لغيره”!
“لا تتطلب ممن هو عنك بعيد، وتترك الطلب من مولى هو أقرب إليك من حبل الوريد”
ألم تسمع قول الله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) (البقرة : 186).
وقال سبحانه: (ادعوني أستجب لكم) (غافر: 60).
وقال سبحانه: (واسألوا الله من فضله) (النساء : 32).
وقال سبحانه: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) (الحجر:21).
كل ذلك ليجمع همم عباده عليه، وكيلا يرفعوا حوائجهم إلا إليه”!.