يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
إن العصيان مخالفة الأمر , والصلاة والصيام مما أمر الله به بل هما من أركان الإسلام التي ينهدم بهدمها وهي من حدود الله تعالى أيضًا , فإنه تعالى قال بعد بيان أحكام الصيام : [ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ]( البقرة : 187 ).
ولا خلاف بين المسلمين في أن الفرض هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه , فمن أنكر فرضية الصلاة والصيام فليس بمؤمن , ومن اعترف بالفرضية فقد اعترف بالعقوبة على الترك.
يقول تعالى : [ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ ]( الماعون : 4-5 ) أليس الويل هو الهلاك أو وادٍ في جهنم ؟ وقوله مخبرًا عن أصحاب النار [ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ ]( المدثر : 42-44 ) أليست صريحة في أن العذاب مرتب على أمور أولها : ترك الصلاة , وثانيها : منع حقوق المساكين بترك الزكاة .
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية ولكن أخروها عن أوقاتها ) وروي مثله عن سعيد بن المسيب .
وفي حديث أحمد ومسلم : ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ) وقد ورد من الأحاديث في الوعيد على ترك الصلاة والصيام ما لا محل لنشره هنا , وهو لا يفيد المجادل إذا لم يفده التذكير بما تقدم من معنى الفرض , وبمكانة أركان الإسلام الخمس من سائر الفرائض , ويكون وعيد الآية : [ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ]( النساء : 14 ) يشمل ذلك كله قطعًا , فحسبنا هذا من الحجة النقلية إن كان مجتهدًا , وإذا كان مقلدًا لأحد الأئمة الأربعة ؛ فليعلم أنه ما من مذهب منها إلا وهو يجزم بعقاب تارك الصلاة والصيام في الدنيا , ويدين بعقابه في الآخرة ، وتفصيل مذاهبهم في ذلك معروف مشهور .
وأما التفرقة بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد فليس معناه أن الله تعالى يطلب من عباده حقوقًا لنفسه لا حظ لهم فيها إلا مجرد الطاعة له , وبناها على المسامحة فسواء عليهم فعلوها أم لم يفعلوها , وحقوقًا أخرى لبعضهم على بعض رتب على الإخلال بها العقوبات لأنها مبنية على المسامحة .
كلا , إن هذا نقض لدين الله تعالى من أساسه , وإنما شرعت التكاليف كلها لمصالح المكلفين وسعادتهم في الدنيا والآخرة , والله غني عن العالمين , وبيان ذلك بالتفصيل يطول جدًّا، وملخصه أن الله تعالى شرع الدين لعباده لأجل صلاح أرواحهم وقلوبهم بالعبادة لأجل صلاح حالهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة , فالفرائض كالعلاج الباطني الذي يقوي الدم والعصب والعضل , ومنع المحرمات كالحمية , فإن الذي يربي روحه بالصلاة لكي يكون كريمًا شجاعًا صبورًا بمعرفة الله وثقته به , منتهيًا عن الفحشاء والمنكر لزكاة نفسه وطهارة قلبه – وبالزكاة ليكون عونًا لإخوانه على مصالحهم رحيمًا بالمحتاجين شاعرًا بفضيلة الحياة الاجتماعية – وبالصيام ليتقي ربه , ولتقوى إرادته , ويتعود على ضبط نفسه بمراقبة ربه.
والحج أيضا كذلك – ألا يجب أن يمنع في أثناء هذه المعالجة النفسية من إتيان ما ينافيها كالتعدي على حقوق الناس الذين يطلب منه أن يكون عونًا لهم ونصيرًا وعن الشهوات الضارة التي تفسد القلب وتستعبد الإرادة ؟ بلى , وإذا كان من فوائد العبادة أن يمتنع من يقيمها على وجهها عن جميع المحرمات بإرادته واختياره وارتياح نفسه ألا يجب أن يمنع عن هذه المحرمات ( كالقتل والسرقة والزنا ) بوضع العقوبة البدنية على ارتكابها حتى يتم له ذلك باختيار ؟ بلى , فمن قبل الإسلام فقد قبل أن يعالج روحه ويربيها بعباداته , وأركانها خمسة منها الصيام , فإذا رفض مع ذلك الحمية عن المعاصي التي لا تتم المعالجة إلا بتركها ؛ ألزم بذلك إلزامًا , وأما إذا ادعى الإسلام ورفض القيام بأركانه ؛ فإنه يعاقب عقاب المرتد كما حارب الصحابة مانعي الزكاة لأنهم مرتدون , وسميت تلك الحرب حرب الردة ، وكذلك يجب على إمام المسلمين أن يحارب كل قوم يتركون شعيرة من شعائر الإسلام حتى يعودوا إليها ، وأما إذا ترك بعض الأفراد ذلك ؛ فعقوبة الفرد تختلف باختلاف حاله , ولذلك جعلت من التعزير الذي يفوض تعيينه إلى رأي الحاكم .
وأما المسامحة والمشاحة لا تكون في الفرائض – مع أنها لم تذكر في القرآن – فيتضح معناها في الأمر الذي فيه حق للناس وحق لله تعالى كالقتل , فمن قتل يقتل , ولكن إذا عفا عنه وليّ الدم فإنه لا يقتل لمجرد المخالفة لأمر الله بحفظ الدم ؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بقتله ولا يضر باستحيائه , وإنما حرم عليه القتل لأنه يضره إذ يجعله شريرًا في نفسه وفي نظر الناس , ولأنه يفسد الأمن ويغري الناس بالاعتداء والتسافك .
فإذا امتنعت الفتنة المتعلقة بحقوق الناس امتنع القتل لأن ما يريده الله بتحريمه من صلاح النفس قد يتم بالبقاء بأن يتوب القاتل ويصلح العمل .
وعذاب الآخرة على ترك الفرائض وارتكاب المحرمات ليس من قبيل عقوبة الحكام في الدنيا , وإنما هو على حسب ارتقاء الروح وتزكيها , أو تدسيتها وتدليها ، وإنما ترتقي الروح بالعقائد الصحيحة التي لا خرافات ولا أوهام فيها , وتتزكى بالعبادة والتهذيب , وتفسد وتتدلى باعتقاد الخرافات وارتكاب السيئات .