الأموال النامية التي أوجب فيها الإسلام الزكاة نوعان:
الأول: نوع تؤخذ الزكاة من أصله ونمائه معًا، أي من رأس المال وغلته، عند كل حول، كما في زكاة الماشية وعروض التجارة، وهذا لتمام الصلة بين الأصل وفوائده وغلته، ومقدار الزكاة هنا هو ربع العشر، أي: (2.5%).
الثاني: نوع تؤخذ الزكاة من غلته وإيراده فقط، بمجرد الحصول على الغلة دون انتظار حول، سواء كان رأس المال ثابتًا كالأرض الزراعية، أم غير ثابت كنحل العسل، ومقدار الزكاة هنا هو العُشر أو نصفه أي (10%) أو (5%).
فعلى أي أساس تُعامَل هذه الأموال النامية الجديدة؟ وكيف نأخذ منها الزكاة ؟ أنأخذ الزكاة من رأس المال وما بقي من غلته كما في الأموال التجارية؟ أم نأخذ من غلته وإيراده فقط كما في الحبوب والثمار والعسل؟
اتجاهان قديمان في زكاة الدور المؤجرة ونحوها من المستغلات.
ولعل كثيرًا من المتصلين بالفقه ولا يغوصون في أعماقه يظنون أن الدور التي تكرى الناس بأجر، ونحوها مما يدر في كل عام أو في كل شهر مالاً وإيرادًا مُتجددًا؛ لم ينص أحد من الفقهاء على حكم في زكاتها؛ لأنها لم تكن مما عمت به البلوى، وانتشر بين الناس، واحتاجوا فيه إلى حكم حاسم.
وهذا التعليل حق، ولكن وجدنا برغم ذلك من فقهائنا من يقول بتزكيتها، وإن اختلفوا في معاملتها والنظر إليها: أتعامل معاملة رأس المال التجاري، فتقوم كل حول، وتؤخذ الزكاة منها ربع عشر قيمتها؟ أم يغض النظر عن قيمتها وتؤخذ الزكاة من غلتها وإيرادها إذا بلغ نصابًا مستوفيًا لشروط الزكاة؟
الاتِّجاه الأول – أن تُقَوَّم وتُزكَّى زكاة التجارة:
هذا الرأي يُعامل مالك العمارة الاستغلالية، والطائرة والسفينة التجاريتين ونحوها معاملة مالك السلع التجارية، فَتُثَمَّن العمارة كل عام، مضافًا إليها ما بقى معه من إيرادها، ويخرج عن ذلك كله (2.5%) ككل عروض التجارة.
رأى ابن عقيل الحنبلي:
ففي الفقه وجدنا هذا الرأي للفقيه الحنبلي أبى الوفاء ابن عقيل -وهو عالم قوى الذهن ناضج الفكر خصب الاستنتاج- وقد نقل عنه هذا الرأي المحقق ابن القيم في كتابه “بدائع الفوائد” نقل الموافق المقر – قال ابن عقيل مخرجًا على ما روى عن الإمام أحمد في تزكيته حلى الكراء: يخرج من رواية إيجاب الزكاة في حلى الكراء والمواشط؛ أن تجد في العقار المُعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة.
قال: “وإنما خرجت ذلك على الحلي؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا تجب فيه الزكاة، فإذا أُعد للكراء وجبت، فإذا ثبت أن الإعداد للكراء أنشأ إيجاب الزكاة في شيء لا تجب فيه الزكاة كان في جميع العروض التي تجب فيها الزكاة ينشئ إيجاب الزكاة.
“يوضحه أن الذهب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهم وعينهما، ثم إن الصياغة والأعداد للباس والزينة والإنتفاع؛ غلبت على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعداد للكراء في غلبة على الاستعمال، وانشأ إيجاب الزكاة، فسار أقوى مما قوى على إسقاط الزكاة، فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها (بدائع الفوائد: 3/143).
هذا ما ذكره ابن عقيل وأقره ابن القيم تخريجًا على مذهب أحمد.
ونحن نقول: “أن ما ذهب إليه الإمام أحمد من إسقاط الزكاة عن الذهب والفضة إذا اسْتُعمل في حلي مباح، ومن إيجابه في الحلي إذا أُعد للكراء؛ مذهب قوى، يستند إلى أصل مهم في باب الزكاة وهو: أن لا زكاة في مال غير نامٍ أو مشغول بالحاجة الأصلية، وإنما الزكاة في المال النامي، وهو الذي يدر على صاحبه كسبًا ودخلاً.
والحلي المباح المستعمل للزينة واللبس مال غير نامٍ، ومشغول بحاجة صاحبه، فإذا أعدَّه للكراء فقد خرج عن ذلك إلى حيز النماء، وأصبح صالحًا للدخول في وعاء الزكاة”.
وهو قول لمالك أيضًا كما ذكر ابن راشد (بداية المجتهد: 1/237 -الطبعة الأولى – استنبول سنة 1333هـ).
وإذا طبقنا هذا على العقارات والأثاث والسيارات والسفن والطائرات والماكينات والأجهزة المختلفة؛ اتضح لنا هذا الحكم: أن لا زكاة فيها إذا كانت للاستعمال الشخصي، فإذا أُعدت للكراء، وغدا من شأنها أن تجلب نماء وربحًا؛ فقد غدت صالحة لوجوب الزكاة، وزكاتها في هذه الحال كزكاة عروض التجارة نصابًا ومقدارًا.
ومعنى هذا أن مالك العمارة أو “الأتوبيس” أو الطائرة أو الفندق أو محل “الفراشة” (يراد بها محلات تأجير الأثاث من خيام ومقاعد وأدوات في الأفراح والولائم وغيرها من المناسبات) أو أي سلعة تؤجر وتعد للإيجار كما قال بن عقيل: عليه -فردًا كان أو شركة- أن يُقَوِّم عقاراته أو سيارته (التاكسي)، فإذا عرف قيمتها ضم إليه ما لديه من رأس المال النقدي، وما له من ديون مرجوة، كما يصنع التاجر في رأس ماله، ثم يخرج ربع عُشرها زكاة.
ولا يقال: إن هذه الأشياء رأس مال ثابت، فيجب أن يعفى من الزكاة، كما يعفى الأثاث الثابت في حوانيت التجارة؛ لأن نقول: إن هذه الأشياء الثابتة هنا هي نفسها رأس المال النامي المغل الذي به تجلب المكاسب والأرباح، وإنما يعفى ما لم يكن مقصودًا للكسب من وراءه، كالأرض والمباني التي توضع فيها الماكينات الصناعية، لأن الماكينات هي المقصودة، بخلاف الأرض والمباني في العمارة الفندق السينما ونحوها، فإن المبنى نفسه هو الذي يجلب الفائدة والمال.
اعتراضات المانعين:
وقد اعترض على هذا الرأي بعض الفقهاء الذين يميلون إلى التضييق في إيجاب الزكاة، مثل الإمام الشوكاني في.
“الدرر البهية” وشارحها صدِّيق حسن خان في “الروضة الندية”.
ولا يبعد ممن يقول: ليس في الخضراوات ولا في البقول ولا في أموال التجارة زكاة -وهذا رأى الشوكاني وصديق- أن يقول: ليس في المستغلات كالدور والدواب التي يكريها مالكها زكاة.
وجملة ما احتج به في الروضة يرجع إلى شبهتين: إحداهما تتعلق بالمنقول من الخبر، والثانية تتصل بالمعقول بالنظر.
( أ ) فأما الخبر فحديث: “ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة” وهو يصرح بنفي الصدقة عن فرس المسلم نفيًا عامًا، وهذا النفي يشمل حالة استغلاله بالتجارة أو بالكراء.
(ب) وأما شبهة الأخرى فهي أن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق -كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة بدون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، فضلاً عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة.
وقد كانوا يستأجرون ويؤجرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم ولم يخطر ببال أحدهم أن يخرج في رأس الحول ربع عشر داره أو عقاره أو دوابه، وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق، حتى كان آخر القرن الثالث؛ من أهل المائة الثالثة؛ فقال بذلك من قال بدون دليل إلا مجرد القياس على أموال التجارة وقد عرفت الكلام في الأصل -يعنى زكاة التجارة- فكيف يقوم الظل والعود أعوج؟
مع أن هذا القياس في نفسه مختل بوجوه، منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع، فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين (الروضة الندية: 1/194).
وخلاصة هذه الشبهة: أن الأصل براءة الناس من التكاليف ولم يوجد دليل يوجب الزكاة في هذه المستغلات، حتى إن أحدًا من السلف لم ينقل عنه القول بزكاتها، فضلاً عن نص من آية أو حديث.
أما القياس على أموال التجارة وزكاتها ؛ فعلى فرض التسليم بثبوت الزكاة فيها، فقد اختل القياس بوجود الفارق وهو: أن أموال التجارة وسلعها ينتفع بعينها، فتنتقل العين من يد إلى يد بالبيع والشراء، بخلاف هذه الأشياء، فإنها باقية، وإنما يستفاد من منفعتها فحسب.
تعقيب وترجيح:
أما حديث: “ليس على المسلم في عبده أو فرسه صدقة ” فالذي اخترناه أن نفي الصدقة فيهما إنما كان لأنهما من حوائجه الأصلية؛ فالعبد يخدمه، والفرس مركبه وعدته للجهاد، ومن ثم أوجب جمهور الفقهاء منذ الصدر الأول إخراج الزكاة عن العبد والفرس إذا كان للتجارة، بل نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، ولم يقف ظاهر هذا الحديث دون ما فهموه وأفْتَوا به.
وأما عدم النقل عن الصدر الأول ما يفيد إيجاب الزكاة في هذه الأشياء ؛ فإنما كان لعدم شيوع الكراء والاستغلال فيها بحيث تعم به البلوى -على حد تعبير الفقهاء- ويظهر الحكم، ويتناقله الرواة، وكل عصر له مشكلاته التي تثار، ويطلب إبرام حكم في شأنها، ولم تكن هذه “المستغلات” من مشكلات تلك الأعصار؛.قال في “البحر”: وقد ادعى مخالفة الهادوية للإجماع، وفيه نظر ؛ إذ لم يصرح السلف فيها بحكم (البحر الزخار 2/148).
وفي حواشي شرح الأزهار: المختار أن قول الهادي ليس مخالفًا للإجماع ؛ لأن الصحابة والتابعين إما أن يكونوا خاضوا في المسألة واختلفوا فيها، فهي خلافية، أو خاضوا وأجمعوا، فلم ينقله عنهم ناقل، أو لم يخوضوا، فلا حرج في استنباط مسألة بفكره الصائب، ونظره الثاقب (حاشية شرح الأزهار 1/450).
أما قياس هذه ” المستغلات ” على عروض التجارة ؛ فربما كان له وجه عند النظرة الأولى، إذ كل من المستغلات والعروض رأس مال نام مغل، وكلا المالكين تاجر يستثمر رأس ماله ويستغله ويربح منه، وكون صاحب العروض ينتفع بإخراج عين الشيء عن ملكه، وصاحب العمارة والمصنع ينتفع بالغلة مع بقاء العين ؛ ليس فرقًا يوجب الزكاة على أحدهما ويعفى الآخر.
بل قد يقال: إن المنتفع باستغلال الشيء مع بقاء عينه في ملكه -كمالك العمارة وصاحب المصنع- ربما كان أكثر ضمانًا للربح ن وأمانًا من الخسارة من صاحبه التاجر الآخر.
هذا ما قد يبدو لأول وهلة، ولكن عند التأمل يتبين لنا المفارقات الآتية:
أولاً: أن أصدق تعريف لعروض التجارة هو: كل ما يعد للبيع من الأشياء بقصد الربح، كما جاء في حديث سمرة أن النبي -ﷺ- كان يأمرهم أن يخرجوا الزكاة مما يعدونه للبيع، وقد تقدم في زكاة التجارة.
ومما لا يخفى أن هذه العمارات والمصانع وما شاكلها لا يعدها صاحبها للبيع، بل للاستغلال، وإنما ينطبق هذا على التجار والمقاولين الذين يشترون العمارات أو يبنونها بقصد بيعها والربح من ورائها؛ فهذه تُعامَل معاملة عروض التجارة بلا نزاع.
ثانيًا: أننا لو جعلنا كل مالك يستغل رأس ماله ويبتغى نماءه تاجرًا -ولو كان رأس المال غير متداول وغير معد للبيع- لكان مالك الأرض والشجر التي تخرج له زرعًا وثمرًا تاجرًا أيضًا، ويجب أن يُقَوِّم كل عام أرضه أو حديقته ويخرج عنها ربع العشر زكاة، وهذا ما لا يقبل، ولا يقول به أحد.
ثالثًا: أن هذه المستغلات قد يتوقف في بعض الأحيان استغلالها لسبب من الأسباب، فلا يجد صاحب العمارة من يستأجرها، ولا يجد صاحب المصنع المواد الأولية اللازمة، أو الأيدي العاملة، أو السوق الرائجة ….الخ، فمن أين يخرج زكاتها؟
إن صاحب العروض التجارية السائلة (المتداولة) يبيعها ويخرج زكاتها من قيمتها، بل يمكن عند الحاجة أن يدفع الزكاة من عينها -كما رجحنا ذلك- ولكن صاحب الدار أو المصنع كيف تؤخذ منه الزكاة إذا لم يكن له مال آخر؟ لا سبيل إلى ذلك إلا ببيع العقار أو جزء منه ليستطيع أداء الزكاة، وفى هذا عسر ظاهر، والله يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر.
ومن هنا تظهر قيمة الفرق بين ما ينتفع بعينه كالعروض التجارية، وما ينتفع بغلته كالعقارات ونحوها.
رابعًا: يعكر على الرأي من الناحية العملية: أن العمارة أو المصنع ونحوه ستحتاج كل عام إلى تثمين وتقدير، لمعرفة كم تساوى قيمتها في وقت حولان الحول، إذ المعهود أن مرور السنين ينقص من صلاحيتها، وبالتالي من قيمتها، كما أن تقلب الأسعار تبعًا لشتى العوامل الداخلية والخارجية له أثره في هذا التقويم، ولا شك أن هذا التقويم الحولي تلابسه صعوبات تطبيقية، ويحتاج أول ما يحتاج إلى مختصين ذوى كفاية وأمانة قد لا يتوافرون كما أن كل هذا يقتضي جهودًا ونفقات تنتقص أخيرًا من حصيلة الزكاة.
لهذا نرى أن الأولى أن تكون زكاة العمارة والمصنع ونحوهما في غلتهما، وهذا ما اتجه إليه الرأيان الآخران وإن اختلفا في تحديد نسبة ما يؤخذ من الغلة: أهي العُشر أو نصفه كما في زكاة الزروع والثمار، أم ربع العُشر كما في زكاة التجارة؟
الاتجاه الثاني – أن تزكى الغلة عند قبضها زكاة النقود:
أما الرأي الثاني الذي وجدناه لبعض الأئمة في كتبنا الفقهية، فإنه ينظر إلى هذه المستغلات نظرة أخرى، فلا يأخذ الزكاة من قيمتها كل حول، ولكن يأخذها من غلتها وإيرادها.
ما روى عن الإمام أحمد
وقد روى عن الإمام أحمد في من أجَّر داره، وقبض كراها: أنه يزكيه إذا استفاده، كما ذكر صاحب المغنى عنه (المغنى: 3/29، 47).
قول بعض المالكية
وفي كتب المالكية، ذكر الشيخ زروق في شرح “الرسالة”: أن في المذهب خلافًا في حكم زكاة الأشياء التي تتخذ للانتفاع بغلتها، كالدور للكراء، والغنم للصوف، والبساتين للغلة، وهذا الخلاف في أمرين:
الأول: في ثمنها إذا بيعت عينها.
والثاني: في غلتها إذا استفيد منها.
فالقول المشهور في الأول: أن يستقبل بثمنها حولاً، كعروض القنية (الممتلكات الشخصية) إذا بيعت.
والقول الآخر، ينظر إليها كعروض التاجر المحتكر، وحكمه عند المالكية معروف، وهو أن يزكى ما يبيع منها في الحال، إذا كان العرض قد بقى في ملكه حولاً أو أكثر.
وهذان القولان يردان في غلة هذه الأشياء وفائدتها كما أشار ذلك الشيخ زروق، وقال: انظره في المطولات (شرح الرسالة: 1/329).
والذي يهمنا هنا هو القول الثاني، الذي يزكى فوائد “المستغلات” عند قبضها.
مذهب جماعة من ا لصحابة والتابعين ومن بعدهم
وكل من قال بتزكية “المال المستفاد” عند تملكه ( بلا اشتراط حول ) يقول بتزكية الإيراد الناتج عن استغلال العمارات وإنتاج المصانع وأجرة السيارات والطائرات والأجهزة وأدوات الفراشة ونحوها.
وهذا هو مذهب ابن عباس وابن مسعود ومعاوية والناصر والباقر وداود، كما روى عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري والزهري ومكحول والأوزاعى.
وحجة هؤلاء عموم النص مثل قول -ﷺ-: “في الرقة ربع العشر.
فإذا كان الرأي الأول يجعل أخذ الزكاة من رأس المال نفسه -العمارة والمصنع- فإن هذا الرأي يجعل أخذها من الدخل والإيراد، بنسبة ربع العشر ( 2.5% )، ولا يشترط لذلك حولان الحول.
رأى معاصر – أن تُزكَّى الغلة زكاة الزرع والثمر:
وهناك رأى آخر معاصر يوافق الرأي الثاني في أخذ الزكاة من غلة هذه الأشياء، ولكنه يخالفه في مقدار ما يؤخذ، فإنه جعل الواجب العشر أو نصفه، قياسًا على الواجب في الأرض الزراعية.
فإذا كان الرأي الأول قاس هذه الأشياء على عروض التجارة ؛ فهذا قاسها على الأرض الزراعية، وقاس إيرادها على الزرع والثمار، إذ لا فرق بين مالك تجبى إليه غلات أرضه المزروعة، ومالك آخر تجبى إليه غلات مصانعه وعماراته ونحوها.
وإلى هذا الرأي -في قياس العمائر والمصانع على الأرض الزراعية- ذهب من فقهائنا المعاصرين الأساتذة: أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن حسن -رحمهم الله- في محاضرتهم بدمشق عام 1952 عن الزكاة (حلقة الدراسات الاجتماعية للجامعة العربية – الدورة الثالثة – ص 241، 242).
فقد قسموا الأموال -نقلاً عن الفقهاء- إلى ثلاثة أقسام:
1- أموال تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية ؛ كدور السكنى لأصحابها، والأقوات المدخرة لسد حاجة المالك، وهذه لا تجب فيها زكاة.
2- أموال تقتنى لرجاء الربح بسببها، أو يكون من شأنها ذلك، ولكن تختزن في الخزائن، وهذا تجب فيه الزكاة باتفاق الفقهاء، ومنه الأموال التي أخذ الرسول منها الزكاة، وهي الأصل الذي يقاس عليه غيره.
3- أموال تترد بين النماء وإشباع الحاجة الشخصية كالحلي والماشية التي تتخذ للعمل والنماء معًا، وفي حكمها اختلف الفقهاء، كما بين من قبل.
ثم قالوا: إن تطبيق هذا التقسيم على عصرنا ينتهي بنا لا محالة إلى أن ندخل في أموال الزكاة أموالاً في عصرنا مغلة نامية بالفعل، لم تكن معروفة بالنماء والاستغلال في عصر الاستنباط الفقهي، وذكروا من هذه الأموال نوعين:
أولاً: أدوات الصناعة التي تعتبر رأس مال للاستغلال، وهي تعتبر وسيلة الاستغلال لصاحبها، مثل صاحب مصنع كبير يستأجر العمال لإدارته، فإن رأس ماله للاستغلال لهو تلك الأدوات الصناعية، فهي بهذا الاعتبار تعد مالاً ناميًا، إذ الغلة التي تجيء إليه هي من هذه الآلات، فلا تعد كأدوات الحداد، الذي يعمل بيده، ولا أدوات النجار الذي يعمل بيده وهكذا .. ولهذا قالوا: نرى أن الزكاة تجب في هذه الأدوات باعتبارها مالاً ناميًا وليست من الأدوات التي لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها.
وإذا كان الفقهاء لم يوجبوا الزكاة في أدوات الصناعة في عصورهم، فلأنها كانت أدوات أولية لا تتجاوز الحاجة الأصلية لصناعتها، والإنتاج لمهارته، فلم تُعتبر مالاً ناميًا منتجًا، إنما الإنتاج فيها للعامل.
أما الآن فإن المصانع تعد أدوات الصناعة نفسها رأس مالها النامي، ولذلك نقول: إن أدوات الصناعة التي يملكها صانع يعمل بنفسه كأدوات الحلاق الذي يعمل بيده ونحوه تعفى من الزكاة، لأنها تعد من الحاجات الأصلية له.
أما المصانع فإن الزكاة تُفرض فيها، ولا نستطيع أن نقول: إن تلك مخالفة لأقوال الفقهاء، لأنهم لم يحكموا عليها، إذ لم يروها، ولو رأوها لقالوا مثل مقالتنا، فنحن في الحقيقة نخرج على أقوالهم، أو نطبق المناط الذي استنبطوه في فقههم رضى الله عنهم.
وثانيًا: العمائر المعدة للاستغلال لا للسكنى الشخصية، فإننا نعدها مالاً ناميًا، ولا نعدها من الحاجات الأصلية، ولذلك نقسم الدور إلى قسمين: أحدهما: ما أعد لسكنى المالك، وهذه لا زكاة فيها، كما قرر الفقهاء.
والقسم الثاني: ما هو معد للاستغلال، فإننا نرى أن تفرض فيه الزكاة، ولسنا في ذلك نخالف الفقهاء، وإن قرروا أن الدور لا زكاة فيها ،لأن الدور في عصورهم لم تكن مستغلاً إلا في القليل النادر، بل كانت للحاجة الأصلية ولم يلتفتوا إلى النادر، لأن الحكم للأغلب الشائع، والنادر لا حكم له في الشرائع.
أما الآن فإن الدور أصبحت للاستغلال لا للسكنى الشخصية فقط، فالعمائر تشاد لطلب الفضل والنماء، وهي تدر الدر الوفير، فالواجب أن تؤخذ منها زكاة، إذ هي مال نام مستغل، ولأننا نأخذ من نظيرها، وهو.
الأراضي الزراعية، فمن العدل أن نأخذ منها زكاة، وإن لم نأخذ منها كان ذلك تفريقًا بين متامثلين، وذلك لا يجوز في الإسلام، ونحن في هذا أيضًا نطبق أقوال الفقهاء السابقين أو نخرج على أقوالهم لتحقيق المناط الذي استنبطوه.
ومن الإنصاف أن نقول: إن الإمام أحمد -رضى الله عنه- كانت له علة تجيئه من حوانيت كان يؤجرها، فكان يخرج زكاتها، مع أنه لا مورد لعيشه سواها (راجع مناقب الإمام احمد ص 224 – لابن أبى يعلى).
ولقد رأيناه -ﷺ- يفرض الزكاة في الأموال المنقولة غير الثابتة من رأس المال بمقدار ربع عشره ووجدناه يفرض في الأموال الثابتة المنتجة في الغلة لا في الأصل، لأن الأصل لا يقبل التجزئة والأخذ منه، فانتقل الأخذ إلى الغلة، فكان الأخذ من الإنتاج بمقدار العُشر أو نصف العُشر.
وعلى ضوء ما قرر النبي -ﷺ- من مقادير مفرقًا بين الثابت والمنقول من حيث المأخذ والمقدار، فإن أيضًا في الأموال المنتجة في عصرنا، نفرق بين المنقول والثابت، ففي المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال بمقدار ربع العُشر ؛ والثابت أن تؤخذ الزكاة من غلته بمقدار العُشر أو نصف العُشر.
وعلى هذا نقول: إن العمائر وأدوات الصناعة الثابتة تؤخذ الزكاة من غلاتها، ولا تؤخذ من رأس المال، وعند التقدير بالعشر أو نصف العشر ؛ إن أمكن معرفة صافي الغلات بعد التكاليف -كما هو الشان في الشركات الصناعية- فإن الزكاة تؤخذ من صافي بمقدار العشر، لأن النبي -ﷺ- أخذ الزكاة بالعُشر من الزرع الذي سقي بالمطر أو العيون، فكأنه أخذه من صافي الغلة، وإن لم تمكن من معرفة الصافي على وجهه -كالعمائر المختلفة- فإن الزكاة تؤخذ منها (أي من الغلة) بمقدار نصف العُشر …هـ. (المصدر السابق ص 249 ؛ 250).
هذا ما ذهب إليه ثلاثة من كبار العلماء، الذين قضوا حياتهم في دراسة الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه، وتدريسها.
فاجتهادهم هنا هو اجتهاد الخبير الأصيل، لا المتطفل الدخيل، وهو اجتهاد صحيح، لأن معتمده هو القياس؛ أحد الأصول والأدلة الشرعية المعتبرة عند جمهور الأمة.
أما تعليقنا على الموضوع نفسه فنوضحه في السطور التالية:
مناقشة وترجيح
إن الرأي الذي ذهب إليه شيوخنا الأجلاء، يوافق الاتجاه الثاني -كما ذكرنا- في أخذ الزكاة من غلة العمارات والمصانع وفوائدها -أعنى أرباحها- ولكنه يخالفه في مقدار ما يجب أخذه.
فالرأي السابق يجعل الواجب ربع العشر اعتبارًا بزكاة النقود، وهذا الرأي يجعل الواجب العُشر أو نصفه، اعتبارًا بزكاة الزروع والثمار، وقياسًا لدخل العمارات والمصانع ونحوها على دخل الأرض الزراعية، وهذا الرأي هو الذي اختاره، لأنه اعتمد على أصل شرعي صحيح وهو القياس، ولكن نلاحظ الأمور الآتية:
أولها: أن هذا الرأي أدخل المصانع والعمارات في الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، ولكنه لم يضع ضابطًا عامًا، أو قاعدة جامعة يندرج تحتها كل ما ماثلها من رؤوس الأموال المغلة المنتجة، فلا شك أن في عصرنا مزارع للأبقار والدواجن ونحوها، تدر ربحًا وفيرًا من المنتجات الحيوانية، وفي عصرنا أموال كسيارات الأجرة الصغيرة (التاكسي) والكبيرة (أتوبيس) وسيارات النقل، والسفن التجارية، والطائرات التجارية، والمحلات التي تؤجر الأثاث في الأحفال والمناسبات، وغير ذلك كثير.
وهذه الأموال الجديدة لا تدخل تحت العمارات والمصانع، ولهذا رأينا أن تدخل هذه الأشياء وما شابهها تحت قاعدة “المستغلات” فهي قاعدة حاصرة جامعة ؛ سواء أكان الاستغلال بطريقة كراء العين والاستفادة بأجرتها ؛ كالعمارات والسيارات ونحوها، أم بطريقة الإنتاج وبيع ما يحصل من نتاجه ؛ أي الإنتاج للسوق، كالمصنع ونحوها، وسواء أكان مصدر الاستغلال حيوانًا كبقر الألبان والدواجن، التي قسنا منتجاتها في الفصل السادس على العسل النحل -أم جمادًا كالأشياء الأخرى،.وسواء أكان المستغل عقارًا كالعمارات والمصنع أم منقولاً كالسيارات والأثاث الذي يؤجر في الأحفال ونحوها.
فلا ضرورة إذًا للتفرقة بين الثابت والمنقول ؛ كما ذكر هذا الرأى، فإنه تؤخذ الزكاة من رأس المال الثابت من الغلة بمقدار العشر (أو نصفه) وفي المال المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال نفسه بمقدار ربع العشر.
أجل …لا ضرورة لهذه التفرقة وقد رأينا النبي -ﷺ-: أخذ من العسل العُشر وهو من غلة النحل، وليس النحل من العقارات، بل هو أقرب إلى المنقولات، وخلايا النحل، يمكن نقلها بالفعل.
الثاني: إن قياس الدور المؤجرة ونحوها على الأراضي الزراعية، غير مُسَلَّم، وقولهم: لا فرق بين مالك تُجبى إليه غلات أرضه، ومالك تُجبى إليه غلات عماراته، منقوض ؛ فإن الزكاة التي تؤخذ من الزرع ليست منوطة بملك الأرض الزراعية بل بملك الزرع نفسه، فصاحب الزرع عليه الزكاة ولو كان مستأجرًا كما هو قول الجمهور.
والذي يصح أن يقاس عليه هو مالك الأرض الذي يكرى أرضه، وتجبى إليه غلته في صورة “أجرة” من مستأجريها، فهذا أشبه شيء بمالك العمارة الذي يكريها، وتجبى إليه غلتها كذلك.
ولهذا كان لابد أن يسبق هذا الحكم أصل يقاس عليه، وهو القول بزكاة أجرة الأرض الزراعية، إذا قبضها مالكها، وهو ما ذهبنا إليه من قبل، ورجحناه بالأدلة ؛ وبدون هذا الأصل لا يسلم القياس المذكور.
الثالث: أن قياس العمارات ونحوها على الأرض الزراعية يمكن أن ينقض بوجود الفارق بينهم ؛ ذلك أن الأرض الزراعية مصدر دائم للدخل لا يعتريه توقف، ولا يلحقه بلىً أو تآكُل بتقادم العهد، بخلاف العمارات ونحوها فإنها مصدر مؤقت يعيش سنوات تقل أو تكثر ثم ينتهي ويتوقف، فكيف يصح القياس مع هذا الاختلاف بين الأصل والفرع ؟ والقياس يقتضي التماثل بين المقيس والمقيس عليه وإلا كان قياسًا مع الفارق.
والذي يخرجنا من هذا الاعتراض، ويصح القياس المذكور هو الأخذ بما ذهب إليه علماء الضرائب إعفاء مقابل الاستهلاك، فقد نادوا باقتطاع مبالغ سنوية من الدخل بحيث يؤدى تراكمها على مر السنين إلى الاستعاضة عن رأس المال -مصدر الدخل- بمصدر آخر جديد.
فإذا كانت الآلة أو العقار -مصدر الدخل- يستطيع الاستمرار في الإنتاج مدة ثلاثين عامًا مثلاً، فإنه يمكن -بادخار جزء من ثلاثين جزء من ثمنه كل عام- شراء مصدر آخر من آلة أو عقار، عند توقف الأول، بحيث يبقى الدخل قائمًا مستمرًا، وهذا الجزء المتقطع كل عام يجب أن يُعفى من الضرائب (انظر: علم المالية للدكتور رشيد الدقر ص 368)
فإذا كان رجل يملك عمارة يُقَوَّم ثمنها بثلاثين ألف دينار، وافترضنا أنها تنقص كل عام (.3/1) من ثمنها، أي ألف دينار فالمفروض أن تحسم هذه الألف من غلتها السنوية فلو كانت تؤجر في السنة بمبلغ (3000) ثلاثة آلاف تعتبر كأنها لم تؤجر إلا بألفين فقط ؛ وبهذا يصح قياس العمارة والمصنع على الأرض الزراعية، فإنها مصدر باق صالح للإنتاج على مر الزمن، وما تحتاج إليه من تسميد ونحوه، فهو أشبه بنفقات الصيانة للمبنى والآلة ؛ وهذا غير مقابل الاستهلاك الذي ذكرنا.