عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء” صحيح البخاري رقم :5678
ولكن أي مريض لا يشفى من دائه إلا بشروط:
1- أن يجد الدواء المناسب لدائه.
2- أن يستخدم هذا الدواء بالفعل، كما وصفه الطبيب كمًا وكيفًا ووقتًا، دون إخلال نسبي منه.
3- أن يكون المحل قابلاً لهذا الدواء ، غير رافض له.
4- أن يصبر على العلاج، ويستمر في تناول الدواء، ولا يستعجل النتيجة.
5- أن يكون موقنًا بخبرة الطبيب، ونجاعة دوائه، آملاً في الشفاء.
وعصرنا هذا يسمونه (عصر القلق) أو (عصر الاكتئاب) أو (عصر اليأس) أو غيرها من هذه الأمراض التي تدخل كلها في إطار الأمراض النفسية التي انتشرت انتشارًا حافلاً، وأكثر الناس حظًا منها بلاد التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، فجل الناس مصابون بمرض أو بآخر من هذه السلسلة.
ونحن- المسلمين -أقل الناس نصيبا من هذه الأمراض، وإن لم يخل من بيننا من يشكو، مثل ما تشكين.
دواء الاكتئاب من الصيدلية المحمدية:
الدواء موجود – بتوفيق الله- في الصيدلية القرآنية النبوية، وتتلخص هذه الوصفة الدوائية أو (الروشتة) الدينية، في الخطوات التالية:
أولاً: الاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه، والتحصن بحصنه الحصين، والأمل في فضله، والرجاء في رحمته، هذا هو الأصل ؛ أن يضع الإنسان نفسه في يد مولاه عز وجل، وأن يؤمن بأنه لن يضيعه، ولن يتخلى عنه، وأنه أبر به من نفسه، وأرحم به من أمه وأبيه، ولا ييأس من روحه أبدًا، ولا يقنط من رحمته أبدًا، “فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون”
إن الله تعالى لا يستعصي عليه مرض، ولا مشكلة مادية ولا معنوية، فكم من مريض شفاه، وكم من فقير أغناه، وكم من سائل أعطاه، وكم من مشرف على الهلاك نجاه، وكم من ضال هداه، وكم من مشرد آواه، وكم من ضعيف قواه، وكم من مبتلي عافاه، وكم من … وكم… فهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
-لقد كشف الله غمة يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجمع بينه وبين أولاده، حين قال: “إنما أشكو بثي وحزني إلى الله” “فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا، إنه هو العليم الحكيم” [يوسف:] ألم تر كيف كشف الضر عن أيوب، بعد مرض طويل، “إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين” فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر ووهبنا له أهله ومثلهم معهم، رحمة من عندنا وذكرى للعابدين” [الأنبياء: ].
-واستجاب الله ليونس (ذي النون) بعد أن التقمه الحوت، ونادى في الظلمات: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت: “أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين” [الأنبياء: ]
-واستجاب الله لزكريا “إذ نادى ربه: رب لا تذرني فردًا، وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له، ووهبنا له يحيى، وأصلحنا له زوجه، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء: ].
-واستجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم دون أن يدعوه، بل قال حين ألقي في النار: “حسبي الله ونعم الوكيل” هكذا كان ذكر إبراهيم ، فقال الله للنار” كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم [الأنبياء: ].
-ونصر الله سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام يوم أخرجه الذين كفروا من بلده أحب بلاد الله إلى الله، وأحب بلاد الله إليه: “ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم” [التوبة:]
هذه الثقة الوطيدة بالله هي بداية الحل، وهي المشعل الذي يضئ الطريق، إن يحط المرء أعماله وأفعاله على باب الله، ويتمرغ على عتبته، ولا يبرح هذا الباب أبدًا، فهو سبحانه لا يرد من طرق بابه، وخصوصًا إذا دعاه دعاء المضطر الذي لا يلجأ له من الله إلا إليه، ولا جناب يلوذ به إلا جنابه، فهو يدعو بحرقة وحرارة واضطرار وافتقار. وليعلم أن أشد ساعات الليل ظلمة وسوادًا، هي السويعات التي تسبق ابتلاج الفجر، وأن سنة الله أن يجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا، وقد قال الشاعر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعًا، وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت، وكنت أظنها لا تفرج
ثانيًا: الصلاة عدة المسلم في الشدائد والكروب والإكتئاب:
ومن أهم ما يلجأ إليه المسلم في شدته وكربه واكتئابه الصلاة التي يقف فيها المسلم بين يدي ربه خائفًا متضرعًا ؛ فهي عدة للإنسان المؤمن في معركة الحياة، تمده بروح القوة، وقوة الروح، وتمنحه طاقة نفسية، وزاداً روحيًا يعينه على مواجهة الشدائد، قال تعالى في توجيه المؤمنين: “يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين” [البقرة:]
وكان النبي ﷺ إذا حزبه أمر، أي اشتد عليه، فزع إلى الصلاة.
ولا سيما إذا اجتهد المسلم أن يسبغ وضوءها، ويتم ركوعها وسجودها وخشوعها، ويستحضر فيها جلال الله تعالى ومعيته له، وخصوصًا مع قوله تعالى: “إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم” فهو يستعين برب العالمين، ويجيب دعاء المضطرين، وكاشف حزن المحزونين، وينبغي له أن ينتهز فرصة السجود ليدعوه تعالى بما يحب، ففي الحديث: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء”.
ثالثًا: الاجتهاد في مساعدة الضعفاء:
ومما يساعد المسلم على الخروج من حالة الكرب والاكتئاب، الاجتهاد في مساعدة الناس، وخصوصًا الضعفاء منهم، مثل الفقراء واليتامى والأرامل والمعوقين وأصحاب الحاجات، والعمل بجد لإغاثة الملهوفين، وتفريج كربة المكروبين، ومسح دمعة المحزونين، وإدخال البسمة على شفاههم، والبهجة على قلوبهم، فهذا يفيد الإنسان المكروب والمكتئب عدة فوائد:
1- أنه يتعبد بهذا العمل لله، وهو من أحب ما تقرب به إلى الله، عباد الله تعالى وأحبهم إليه أنفعهم لعياله، وفي الحديث: “أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن اعتكف في المسجد شهرًا.
2- أنه يخرج المرء المكتئب من سجن الوحدة والوحشة، الذي فرضه الإنسان على نفسه، ويشعر بكيانه، وبأنه قادر على أن ينجز ويؤثر، ويشغله بهموم غيره، بعد أن كان كل همه نفسه، لا ينظر إلا إليها، ولا يدور إلا حولها، كما يدور الوثني حول صنمه.
3- أن نجدته للناس، ومعونته للمستضعفين وأهل الحاجة، يكتسب حبهم له، ودعاءهم له بإخلاص، من أعماق قلوبهم، لا من أطراف ألسنتهم، وهذا الدعاء له أثره وقبوله عند الله تعالى. ولذا قال ﷺ: “وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم”
رابعا: أذكار وأدعية نبوية لعلاج الكرب والهم والاكتئاب:
هناك مجموعة من الأذكار والأدعية النبوية لعلاج الكرب والهم والحزن أو ما يسمى في عصرنا بـ (الاكتئاب) أو (القلق المرضي) وقد ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم (زاد المعاد في هدي خير العباد) حين تحدث عن هديه ﷺ في علاج الأمراض الحسية المختلفة، وأطال النفس فيها، ثم تحدث في فصل خاص عن علاجه للمكروب والمهموم والمحزون، وإن شئت قلت: للكرب والهم والحزن. وهو علاج يقوم على الأذكار والدعوات التي تصل الإنسان بربه عز وجل.
ومن هذه الأدعية:
“لا إله إلا الله العليم الحليم: لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم”.
وفي “جامع الترمذي” عن أنس، أن رسول الله ﷺ، كان إذا حزبه أمر، قال: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث”
وفي “سنن أبي داود” عن أبي بكرة، أن رسول الله ﷺ قال: “دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت”
وفيها أيضًا عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله ﷺ: “ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب، أو في الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئًا”. وفي رواية أنها تقال سبع مرات.
وفي “مسند الإمام أحمد: عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ قال: “ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحًا”.
وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله ﷺ: “دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له”
وفي رواية “إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه: كلمة أخي يونس”.
وفي “سنن أبي داود” عن أبي سعيد الخدري،قال: دخل رسول الله ﷺ ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: “يا أبا أمامة مالي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟” فقال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، فقال: “ألا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك؟” قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: “قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال“، قال: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عن ديني.
ولكي تنفع هذه الأدوية أو الأدعية النبوية، وتؤتى أكلها، وتحقق آثارها، فلا بد أن يصاحبها ما يأتي:
1 – أن يخلص الدعاء لله تبارك وتعالى، فلا يشرك مع الله أحدًا ولا شيئًا، لا نبيًا ولا وليًا، ولا شيئاً مع الله تعالى، وقد نص علينا القرآن قصة المشركين الذين يدعون الله تعالى عندما تنزل بهم الشدائد، وتحيط بهم الكروب، فييأسون من كل مخلوق، فيرجعون إلى فطرهم، ويذوب كل طلاء زائف غش الفطرة من قبل، ويدعون الله وحده مخلصين له الدين، لم يدعوا وثنًا ولا صنمًا ولا كاهنًا، فاستجاب الله لهم لصدقهم في هذه اللحظة. اقرأ قوله تعالى: ” هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ “يونس: 21-22 .
2 – أن يدعو الداعي، وهو مؤمن بالإجابة، فلا يجوز له أن يتردد أو يشك في أن الله مجيب دعوته، فإن هذا الشك أو التردد أو الأمر في صيغة الاحتمال، أو التجربة، يضيع أثر الدعاء، وقد قال ﷺ: “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة”.
يجب أن يفطر المسلم والمسلمة إلى هذا الأمر –الدعاء وإجابته- باعتباره قانونًا إلهيًا، قد عبر عنه القرآن بقوله: “وقال ربكم: ادعوني أستجب لكم” غافر: وقال تعالى: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان” البقرة: 186.
3 – أن يستمر في الدعاء والابتهال إلى الله تعالى، تلذذًا بدعائه، متعبدًا بالتضرع إليه، ولا يكون همه إدراك الثمرة في الحال، بل هو يدعو ويدعو ويدعو، ويدع الإجابة إلى مدبر الأمر كله، ونحن نرى أن كثيرًا من الأدوية لا تحقق أثرها إلا بعد مدة قد تقصر أو تطول، ولا بد للمريض أن يصبر عليها، ويستمر في تناولها، ما دامت من وصف طبيب موثوق به.
والنبي ﷺ يحذرنا من الاستعجال في الدعاء، فيقول: يستجاب للعبد ما لم يستعجل، قالوا: وكيف يستعجل يا رسول الله؟ قال: يقول: دعوت فلم يستجيب لي، فيستحسر ويدع الدعاء”.