روى البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ ﷺ _ قال:” إذا وقع الذُّباب في شراب أحدكم فليغمِسْه ثم لينزعْه ، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء ” وجاء في روايات لغير البخاري التعبير بإناء بدل شراب، والتعبير بقوله ” فامقلوه ” بدل ” فليغمسه ” وأن الذباب يقدم الجناح الذي فيه الداء ويؤخِّر الجناح الذي فيه الدواء، والحديث يأمر بنزع الذبابة بعد غمسها وعدم تركها في الإناء .
حول هذا الحديث قامت معركة كبيرة بين الأطباء أنفسهم، وأدلى كل فريق بوجهة نظره، وتبَيّن من كلامهم ـ وهم أهل الذكر في الناحية الطِّبِّيّة ـ أن الطِّب ما زالت فيه أسرار لم يصل العلم إلى كشفها حتى الآن، وقام بعض خبراء التحليل ببحوث أثبت فيها أن الذباب ـ وبخاصّة النوع الذي يُعرف بالزنبور ـ في جسمه سمٌّ وتِرياق، أو مرض ودواء، ومعروف لدى الجميع أن سمَّ العقرب يُعالج بسم العقرب بعد إجراءات خاصة، والتّحصين من بعض الأمراض يكون بمسبِّب هذه الأمراض بعد ترويض الميكروبات أو الفيروسات ـ حسب مصطلحهم ـ بعمليات معيّنة.
وأكد علماؤنا الأجِلاء أن الحديث ما دام قد ثبت بطريق صحيح فلا ينبغي أن نسارِع بتكذيبه إذا خالَف شيئًا مألوفًا لم يصل إلى درجة الحقيقة القاطعة، ولا أن نُسارِعَ بتأويله ليناسب ما عَهِدْناه، إلا إذا ثبت بالقطع الذي لا يعتريه شكّ، فهنا يكون التأويل مسموحًا به، ووجوه هذا التأويل كثيرة. والتعارض بين النصِّ والحقيقة هو تعارُض في ظاهر النص لا في حقيقته؛ لأنّ الحقيقتين لا تتعارضان أبدًا تعارضًا كاملاً من كل الوجوه؛ لأنهما من صنع الله الحكيم .
ومن العلماء المرموقين في التوفيق بين الروايات التي يتعارَض بعضها مع بعض: ابن قتيبة الدينوري المتوفَّى سنة 276 هـ ، وأشار إلى حديث الذباب في كتابه ” تأويل مختلف الحديث ” وأورد كلام الأطباء في منافع الحيّات والعقارب والذباب .
والمرحوم الشيخ يوسف الدجوي أجاب عن هذا الحديث بما لا يخرج عمّا تقدّم وأيده بمحاضرة ألقاها السيد / إبراهيم مصطفى عبده ـ معيد في الصيدلة وتركيب العقاقير الطبية ـ في جمعية الهداية الإسلاميّة بالقاهرة بتاريخ 19 / 3 / 1931 م ، ونشر ذلك بمجلة الإسلام في 30 / 12 / 1932 م ، أيدها بتجارِبَ ونُقُولٍ عن كبار الأطباء العالميين، كما نشر بمجلة الأزهر ” عدد رجب 1378هـ ” وكان هذا الحديث ضمن الرسالة التي قدمها المرحوم الشيخ محمد محمد أبو شهبة لنيل درجة الأستاذيّة سنة 1946م وفيه نُقُول طِبِّيّة عن كِبار الأطباء، ويمكن الرجوع في هذا الموضوع إلى كتابه ” دفاع عن
السُّنّة ” صفحة 199 .
وجاء في محاضرة الأستاذ إبراهيم مصطفى أن الذّباب يقع على العُفونات وما فيها من جراثيم، ويتحول ما يأكله في داخل جسمه إلى ما سمّاه علماء الطب ” البكتريوفاج ” الذي ينتصر على كثير من الجراثيم، وأثبت ذلك بما نقله عن مجلة التجارِب الطبيّة الإنجليزيّة ” عدد 1037 عام 1927م ” .
وبرهن على ذلك أيضا الدكتور ” دريل ” مندوب الصحة البحريّة في الهند للبحث عن ظهور الكوليرا فيها، وقدَّم تقريرًا عن بحوثه في ديسمبر 1927م، وأكَّد فاعلية البكتريوفاج الذي ينقله الذباب من براز النّاقهين إلى آبار الماء ، فيشربه الأهالي ، فسُرعان ما تخفُّ عنهم وطأة الكوليرا ثم تزول. وأُجريت مثل تجارب الدكتور ” دريل ” في البرازيل عن الدوسنتاريا الحادّة، واستعمل البكتريوفاج في علاج الحُمّى التيفوديّة، وضد جراثيم أخرى.
ويقول الأستاذ إبراهيم مصطفى: اطلعت على تفصيل قوة البكتريوفاج في مقاومة وإبادة الجراثيم في كتاب باللغة الإنجليزية اسمه ” تمهيد البكتريولوجي العملي ” الذي يُدَرَّس في كلية الطبِّ المصريّة، يكاد يذكر أنّها غير محدودة .
ثم يقول الشيخ يوسف الدجوي بعد استشهاده بهذه المحاضرة : ومع ذلك نقول بالاحتياط من الذُّباب، وغاية ما يريده الحديث أنّك إذا فرَّطت في الوِقاية فلا تفرِّط في العلاج بغمس الذُّبابة كلِّها.