إذا جاز للمسلم التبرع بجزء من بدنه مما ينفع غيره ولا يضره، فهل يجوز له أن يوصى بالتبرع بمثل ذلك بعد موته؟
والذي يتضح أنه إذا جاز له التبرع بذلك في حياته، مع احتمال أن يتضرر بذلك وإن كان احتمالا مرجوحًا فلا مانع أن يوصى بذلك بعد موته، لأن في ذلك منفعة خالصة للغير، دون احتمال أي ضرر عليه، فإن هذه الأعضاء تتحلل بعد أيام ويأكلها التراب، فإذا أوصى ببذلها للغير قربة إلى الله تعالى، فهو مثاب ومأجور على نيته وعمله، ولا دليل من الشرع على تحريم ذلك، والأصل الإباحة، إلا ما منع منه دليل صحيح صريح، ولم يوجد.
وقد قال عمر رضى الله عنه في بعض القضايا لبعض الصحابة: “شيء ينفع أخاك ولا يضرك، فلماذا تمنعه”؟ وهذا ما يمكن أن يقال مثله هنا لمن منع ذلك.
وقد يقال: إن هذا يتنافى مع حرمة الميت التي يرعاها الشرع الإسلامي، وقد جاء في الحديث: “كسر عظم الميت ككسر عظم الحي”. (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة عن عائشة كما في الجامع الصغير، ورواه ابن ماجة عن أم سلمة بلفظ: “ككسر عظم الحي في الإثم”).
ونقول: إن أخذ عضو من جسم الميت لا يتنافى مع ما هو مقرر لحرمته شرعًا، فإن حرمة الجسم مصونة غير منتهكة، والعملية تجرى له كما تجرى للحى بكل عناية واحترام دون مساس بحرمة جسده.
على أن الحديث إنما جاء في كسر العظم، وهنا لا مساس بالعظم، والمقصود منه هو النهى عن التمثيل بالجثة، والتشويه لها، والعبث بها، كما كان يفعل أهل الجاهلية في الحروب، ولا زال بعضهم يفعلها إلى اليوم، وهو ما ينكره الإسلام ولا يرضاه.
ولا يعترض معترض بأن السلف لم يؤثر عنهم فعل شيء من ذلك، وكل خير في اتباعهم.. فهذا صحيح لو ظهرت لهم حاجة إلى هذا الأمر، وقدرة عليه، ولم يفعلوه. وكثير من الأعمال التي نمارسها اليوم لم يفعلها السلف، لأنها لم تكن في زمنهم.
والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، كما قرر ذلك المحققون، وكل ما يمكن وضعه هنا من قيد هو ألا يكون التبرع بالجسم كله، أو بأكثر أو بما دون ذلك، مما يتنافى مع ما هو مقرر للميت من أحكام، من وجوب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه،، ودفنه في مقابر المسلمين.. .. إلخ، والتبرع ببعض الأعضاء لا يتنافى مع شيء من ذلك بيقين.