يقصد العلماء من الهندسة الوراثية ذلكم العلم الذي يهتم بدراسة التركيب الوراثي للخلية الحية ، ويستهدف معرفة السنن أو القوانين التي تتحكم بالصفات الوراثية للمخلوقات الحية ، وذلك من أجل التدخل فيها وتعديلها، وإصلاح العيوب التي تطرأ عليها، وهذا العلم من العلوم النافعة، ولا حرج من الانتفاع من هذا العلم، وهناك مجموعة من الضوابط الشرعية للاستفادة من هذا العلم.
يقول الدكتور أحمد كنعان ـ رئيس قسم الأمراض المعدية بإدارة الرعاية الصحية الأولية بالمنطقة الشرقية في السعودية:
إنَّ البحث في الهندسة الوراثية مباح لأنه يستهدف كشف سنن الله في الخلق وفهمها وتسخيرها في ما ينفع العباد ، والقاعدة في هذا قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) [سورة العنكبوت: 20] وقوله تعالى : (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [ سورة يونس: 101]
وقد ثبت أن الهندسة الوراثية يمكن أن تعالج بعض المشكلات المرضية في الإنسان والحيوان والنبات كما أشرنا آنفاً، وهذا ما يجعلها ضرباً من ضروب التداوي المشروع، وقد أصدر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي قراراً بتاريخ 15 رجب 1419 هـ الموافق 4 تشرين الثاني 1998 م أجاز فيه:
( الاستفادة من علم الهندسة الوراثية، في الوقاية من المرض، أو علاجه، أو تخفيف ضرره، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر أكبر .. كما أجاز المجلس شرعاً استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية، ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان، شريطة الأخذ بكل الاحتياطات لمنع حدوث أي ضرر – ولو على المدى البعيد – بالإنسان أو الحيوان أو البيئة) .
و بما أن الهندسة الوراثية يمكن أن تُغيِّر التركيبة الفطرية التي ركَّبَ الخالق عز وجل عليها خلقه ، فيجب أن يكون حاضراً في أذهاننا – ونحن نخوض في حقل الهندسة الوراثية – ذلك الوعيد الخبيث من إبليس بإغواء بني آدم لتغيير خلق الله ، حيث قال : (( ولآمرنهم فليُغَيِّرُنَّ خلق الله ))[ سورة النساء : 119] .
ولهذا علينا أن نحذر من الوقوع في المحظور ، فلا نرتكب مثل هذا التغيير الشيطاني ، كأن نستهدف بالهندسة الوراثية مثلاً إنتاج سلالات بشرية متفوقة ( Superman ) ذات صفات خارقة للعادة كما يتخيَّل بعض العلماء ! فإن هذا الفعل قد يخلُّ بالتركيبة العضوية والاجتماعية والنفسية لبني البشر ، بل يجب أن يكون التغيير مشروعاً ، كأن يكون لعلاج تشوه أو مرض ، أو إنتاج أعضاء تنفع في زراعة الأعضاء ، وما شابه ذلك من الأغراض المشروعة التي بيَّنا بعضها فيما مضى.
وقد أكد مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المشار إليه آنفاً أنه:
( لا يجوز استخدام أيٍّ من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشريرة والعدوانية ، وفي كل ما يحرُمُ شرعاً ، ومن ذلك العبث بشخصية الإنسان ومسؤوليته الفردية، أو التدخل في بنية المورثات بدعوى تحسين السلالة البشرية)
– إن التجارب التي تجرى في حقل الهندسة الوراثية وغيرها من التجارب التي تؤثر في التركيبة الوراثية للمخلوق الحي ( مثل الاستنساخ clonning ونحوه .. ) يجب أن تخضع للضوابط الشرعية ، وأن تتجنب الممارسات المحرمة ( مثل التجارب التي تؤدي إلى اختلاط الأنساب ونحوه).
كما ينبغي مراعاة الضوابط الشرعية في التطبيقات العملية لهذه التجارب ، ويجب أن تخضع شتى التجارب والتطبيقات العملية التي من هذا النوع للإشراف العلمي والشرعي الدقيق من قبل هيئات شرعية علمية متخصصة، منعاً لاستغلال هذا العلم في أغراض غير مشروعة ، ودرءاً للأخطار المحتملة التي قد تنجم عن العبث فيه ، وذلك لأن الهندسة الوراثية تنطوي على محاذير عظيمة منها على سبيل المثال :
• أن البحوث في حقول الوراثة هي مدار الكثير من الأحكام الشرعية، وتترتب عليها حقوق عديدة كالميراث والبُنُوَّة وغيرها ..
• أن الهندسة الوراثية قد تسفر عن توليد سلالات ( Races ) جديدة من المخلوقات الحية التي يمكن أن تشَكِّل خطراً على التوازن الحيوي في الأرض !
• يتعذَّر التنبؤ بنتائج التجارب التي تجرى في حقل الهندسة الوراثية وانعكاساتها على الأجيال القادمة، وعلى الرغم من ( أن هذه التجارب بسيطة في الوقت الحاضر، فإنها يمكن أن تهدد حرية الإنسان ووجوده في المستقبل ، لأنها تسعى إلى السيطرة على مورثات الإنسان والتحكم فيها مما يعني أنها ستسيطر على إرادته ، وقد تهدد وجوده الإنساني).
• أن الأخطاء التي قد تنجم عن الهندسة الوراثية غير قابلة للتدارك ( Irreversible ) أي هي أخطاء لا يمكن تصحيحها إن حدثت، وهذا ما يستدعي المزيد من الحذر والحيطة قبل إجراء التجارب في هذا الحقل ، لأنها قد تنتهي بكوارث بيئية واجتماعية مدمرة!
-بما أن قضايا الهندسة الوراثية هي قضايا مستحدثة ، وتطرق أبواباً جديدة ، وتنطوي على نتائج تتعلق بها أحكام شرعية عديدة كما قدمنا ، فيجب عدم التسرع بإبداء الرأي الشرعي فيها مع الدعوة إلى مواصلة الدراسة والبحث حتى تتبين أبعادها بوضوح ، ومن ثمَّ يتحرر الحكم الشرعي فيها ، علماً بأن معظم دول العالم – الإسلامية وغير الإسلامية – قد حظرت إجراء تجارب الاستنساخ على البشر ، لما قد ينجم عنها من نتائج اجتماعية وحيوية ( Biological ) خطيرة[1]!
[1] الموسوعة الطبية الفقهية ـ الدكتور أحمد كنعان صـ (922-924 ) ـ دار النفائس ـ بيروت ـ الطبعة الثانية: 1426هـ 2006م.