إثارة بعض الناس أن هناك عداء بين الفقهاء الراسخين في العلم ،هو عمل الجاهل الذي لا يعرف للعلماء قدرهم،ولا يعني الاختلاف الفقهي اختلافًا وعداء شخصيًا،وإلا كان الاختلاف الفقهي بين الصحابة اختلافًا شخصيًا!!
وهذه الكلمات ننقلها للدكتور القرضاوي معبرًا فيها عن علاقته بالشيخ ابن باز رحمه الله تعالى ،يظهر فيها الأدب الجم ،ومعرفة أهل الفضل بعضهم لبعض،وقد كان الدكتور القرضاوي حين يذكر الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى ،يقول:(والوالد العلامة ابن باز – حفظه الله-) فهذا هو شأن العلماء الثقات.
كلام الشيخ يوسف القرضاوي في وفاة الشيخ ابن باز:
إن موت العلماء الأفذاذ مصيبة كبيرة ، فإن الأمة تفقد بفقدهم الدليل الذي يهدي ، والنور الذي يضيء الطريق ، يقول علي كرم الله وجهه: إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما قبض الله عالمًا إلا كان ثغرة في الإسلام لا تسد. يؤكد هذا حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه:( إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعًا من صدور الناس ولكنه يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا .
الحديث بين الشيخ القرضاوي والشيخ ابن باز حول كتاب الحلال والحرام:
ورددت يومها على الشيخ برسالة رقيقة قلت له فيها: إن أحب علماء الأمة عليّ ألا أخالفه في رأي هو الشيخ ابن باز ، ولكن قضت سنة الله ألا يتفق العلماء على رأي واحد في كل المسائل ، وقد اختلف الصحابة بعضهم مع بعض ، واختلف الأئمة بعضهم مع بعض ، فما ضرهم ذلك شيئًا ، اختلفت آراؤهم ولم تختلف قلوبهم وبعض هذه المسائل الثماني اختلف الناس فيها من قديم ، مثل قضية وجه المرأة أهو عورة أم ليس بعورة؟ وقضية الغناء بآلة وبغير آلة ، ما حكمه؟ وسيظل الناس يختلفون فيها إلى ما شاء الله ، ويرد بعضهم على بعض ، ولا حرج في ذلك ولا إنكار في مسائل الخلاف ، وهذا من سعة هذا الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان.
وهناك قضايا فهمت عني خطأ ، فقد قيل: إني أبحت التدخين ، أو ترددت في الحكم عليه ، مع أني معروف بالتشدد في هذا الأمر ، ومن قرأ كتابي أو غيره تبين له ذلك بجلاء ، ومثل ذلك قضية جواز المودة مع الكافر ، وأنا لم أجز المودة مع كافر لو كان محادًا محاربًا لله ولرسوله وللمؤمنين ، إنما المودة مع المسالم الذي له حق على المسلمين ، ولهذا أجاز الشرع للمسلم أن يتزوج كتابية مع ما افترض أن يكون بين المرء وزوجه من مودة ورحمة.
وقلت في نهاية رسالتي للشيخ: أرجو ألا يكون خلافي في بعض المسائل سببًا في منع كتابي من دخول السعودية ، وقد استجاب الشيخ -رحمه الله- فيما ظهر لي- إلى رغبتي ، وسمح لكتابي وغيره بدخول سوق السعودية.
واتصل حبل الود بيني وبين العلامة ابن باز في مناسبات كثيرة ، في مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي ، وفي المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ، وكنت عضوًا فيه ، وكان الشيخ نائبًا لرئيسه ، إذ كان رئيسه هو ولي عهد السعودية الأمير فهد بن عبد العزيز -حفظه الله- في ذلك الوقت ، وفي مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي التي أتشرف بعضويته ويرأسه الشيخ ، وفي المؤتمرات العلمية والدعوية العالمية التي أقيمت في السعودية ، مثل المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة ، والمؤتمر العالمي للدعوة والدعاة في المدينة المنورة ، ومؤتمر مكافحة المسكرات والمخدرات والتدخين في المدينة المنورة أيضًا.
وأبى الشيخ على نفسه ألا يغادر السعودية ، وكم دُعي من أقطار وجهات شتى ، ولكنه اعتذر ، وعندما أقيم المؤتمر العالمي للسنة والسيرة في دولة قطر في افتتاح القرن الخامس عشر الهجري ، وجهنا إليه الدعوة وألححنا عليه ، ولكنه قال: إنه كان يود الاستجابة للدعوة ، ولكن هذا يفتح عليه أبوابًا لا يستطيع سدها ، وأصر على موقفه ونهجه في الاعتذار.
لم أر مثل الشيخ ابن باز في وده وحفاوته بإخوانه من أهل العلم ، ولا في بره وإكرامه لأبنائه من طلبة العلم ، ولا في لطفه ورفقه بطالبي الحاجات من أبناء وطنه ، أو أبناء المسلمين عمومًا ، فقد كان من أحسن الناس أخلاقًا ، الموطئين أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون.
ولقد رأيته في المجمع الفقهي يستمع وينصت إلى الآراء كلها ، ما يوافقه منها وما يخالفه ، ويتلقاها جميعًا باهتمام ، ويعلق عليها بأدب جم ، ويعارض ما يعارض منها برفق وسماحة دون استعلاء ولا تطاول على أحد ، شاديًا في العلم أو متناهيًا ، متأدبًا بأدب النبوة ، متخلقًا بأخلاق القرآن.
ولا أعرف أحدًا يكره الشيخ ابن باز من أبناء الإسلام إلا أن يكون مدخولاً في دينه أو مطعونًا في عقيدته ، أو ملبوسًا عليه ، فقد كان الرجل من الصادقين الذين يعلمون فيعملون ، ويعملون فيخلصون ، ويخلصون فيصدقون ، أحسبه كذلك والله حسيبه ، ولا أزكيه على الله تعالى.