أخذت العقود بعدا مختلفا بعد انتشار الشبكة العنكبوتية، فأصبح من اليسير توقيع العقود عبر الانترنت بكافة صورها وأشكالها، بداية من عقود الزواج، ومرورا بكافة المعاملات المالية، وانتهاء بالاشتراك في الخدمات المتعددة…
وللشريعة الإسلامية رأي في مسألة توثيق العقود فأجازت بعض العقود عن طريق الإنترنت ومنعت البعض الآخر.
وقد ذكر الشافعية مسألة قريبة الشبه من هذه الصورة وهي أن المتعاقدين لا يشترط فيهما قرب المكان ولا رؤية بعضهما لصحة العقد وانعقاده، ويسري ثبوت الخيار.
جاء في كتاب المجموع للإمام النووي:
لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف، وأما الخيار، فقد قال إمام الحرمين يحتمل أن يقال لا خيار لهما؛ لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته، ويحتمل أن يقال ثبت ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره. وهل يبطل خيار الآخر أم يدوم إلى أن يفارق مكانه؟ فيه احتمالان للإمام، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما، فإذا فارق أحدهما موضعه ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عُدَّ تفرُّقًا حصل التفرق وسقط الخيار، ثم قال والأصح في الجملة ثبوت الخيار، وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما جميعًا، وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار، أو في صحن وصفة، صرح به المتولي.([1])
وقد نصت لجنة تعليل مجلة الأحكام العدلية على صحة التعاقد بالتلغراف والتلفون في سنة 1921م، وأفتى الشيخ أحمد إبراهيم سنة 1935م بنحو ذلك وقال: وأما العقد بالتليفون فالذي يظهر أنه كالعقد مشافهة مهما طالت الشُّقة بينهما، ويعتبر العاقدان كأنهما في مجلس واحد، إذ المعنى المفهوم من اتحاد المجلس أن يسمع أحدهما كلام الآخر ويتبيَّنه، وهذا حاصل في الكلام بالتليفون.([2] )
وقد أخذت القوانين بهذه الوجهة ونصت على أن التعاقد بالتليفون أو بأي وسيلة أخرى مماثلة يعتبر كأنه تم بين حاضرين فيما يتعلق بالزمان وبين غائبين فيما يتعلق بالمكان.
بقيت مسألتان:
الأولى:التعاقد عن طريق العقل الإلكتروني، وهذا كما قال المالكية يعتبر من فعل الإنسان، فإذا انضبطت أموره وأمن اللبس كان التعاقد بواسطته كالتعاقد فيما سبق.
المسألة الثانية: ما أثاره البعض في احتمال التزوير والانتحال فهذه مسألة خاضعة لقواعد الإثبات. أ. هـ([3]).
وقد جاء في مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17-23 شعبان 1410هـ الموافق 14-20 آذار (مارس) 1990م. بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة قرر ما يلي:
1 – إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد، ولا يرى أحدهما الآخر معاينة، ولا يسمع كلامه، وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو السفارة (الرسول)، وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكومبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله.
2 – إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين، وينطبق هذا على الهاتف واللاسلكي، فإن التعاقد بينهما يعتبر تعاقدًا بين حاضرين وتطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقررة لدى الفقهاء المشار إليها في الديباجة.
3 – إذا أصدر العارض بهذه الوسائل إيجابًا محدد المدة يكون ملزمًا بالبقاء على إيجابه خلال تلك المدة، وليس له الرجوع عنه.
4 – أن القواعد السابقة لا تشمل النكاح لاشتراط الإشهاد فيه، ولا الصرف لاشتراط التقابض، ولا السلم لاشتراط تعجيل رأس المال.
5 – ما يتعلق باحتمال التزييف أو التزوير أو الغلط يرجع فيه إلى القواعد العامة للإثبات.([4])
وجاء أيضا قرار مجمع الفقه بالهند في النقاط التالية:
1- المراد من المجلس: الحال التي يشتغل فيها العاقدان بإجراء التعاقد، والقصد من اتحاد المجلس أن يتصل الإيجاب بالقبول في وقت واحد، ومن اختلاف المجلس أن لا يتصل الإيجاب بالقبول في وقت واحد.
2- يصح الإيجاب والقبول في البيع عن طريق الهاتف ومؤتمر الفيديو، وإذا كان العاقدان على الإنترنيت في وقت واحد ويظهر الطرف الآخر قبوله بعد الإيجاب بالفور فينعقد البيع، ويعتبر مجلس العاقدين في هذه الصورة متحدا.
3 – إذا أجاب أحد في البيع على الإنترنت ولم يكن الطرف الآخر متواجدا على الإنترنت في وقت الإيجاب، وبعد وقت استلم الإيجاب، فهذه إحدى صور البيع بالكتابة، وعند ما يقرأ الإيجاب يلزمه إظهار القبول في حينه.
4 -إذا أراد المشتري والبائع إخفاء تعاقدهما واستخدما لذلك الأرقام السرية، فلا يجوز لشخص آخر الإطلاع على هذا التعاقد، أما إذا كان لشخص ما حق الشفعة أو حق شرعي آخر متعلقا بذلك العقد أو البيع فيجوز له الإطلاع عليه.
5 -إن عقد النكاح يحمل خطورة أكثر من عقد البيع، وفيه جانب تعبدي،ويشترط فيه الشاهدان، لذلك لا يعتبر مباشرة الإيجاب والقبول للنكاح على الإنترنيت ومؤتمر الفيديو والهاتف، أما إذا استخدمت هذه الوسائل لتوكيل شخص للنكاح، ويقوم الوكيل من جانب موكله بالإيجاب والقبول أمام الشاهدين فيصح النكاح، ويلزم في هذه الصورة أن يكون الشاهدان يعرفان الموكل أو يذكر الموكل باسمه واسم أبيه عند الإيجاب والقبول.
[1] – المجموع شرح المهذب 9م 213 -214 .
[2] – درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1/ 141- 142 .
([3])راجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي 6/ 2/ 1260، وما بعدها الشيخ عبد الله محمد عبد الله عند عرضه للبحوث المقدمة وتعليقه عليها.
([4]) مجلة مجمع الفقه الإسلامي 6/ 2/ 1265- 1268.