التحريم بالرضاع يثبت بالصغر في الأصل، إلا ما دعت إليه الضرورة التي لا يستغني عنها الإنسان، كأن يربى غلام في بيت ويكبر ويصعب على المرأة رفع الحجاب عنه، أو أي ضرورة معتبرة شرعًا دون تحديد لنوعها، أما عدد مرات الرضاع فأمر مختلف فيه ورأي الجمهور أنه لا يثبت إلا بخمس رضعات .
جاء في كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني ما نصه بتصرف:
حديث إرضاع امرأة أبي حذيفة لسالم مولى أبي حذيفة قد رواه من الصحابة أمهات المؤمنين وسهلة بنت سهيل وهي من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة وهي ربيبة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ورواه من التابعين القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وحميد بن نافع ورواه عن هؤلاء الزهري وابن أبي مليكة وعبد الرحمن بن القاسم ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة ثم رواه عن هؤلاء أيوب السختياني وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة ومالك وابن جريج وشعيب ويونس وجعفر بن ربيعة ومعمر وسليمان بن بلال وغيرهم وهؤلاء هم أئمة الحديث المرجوع إليهم في أعصارهم ثم رواه عنهم الجم الغفير والعدد الكثير وقد قال بعض أهل العلم: إن هذه السنة بلغت طرقها نصاب التواتر .
وقد استدل بهذا الحديث من قال إن إرضاع الكبير يثبت به التحريم وهو مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه كما حكاه عنه ابن حزم ، وأما ابن عبد البر فأنكر الرواية عنه في ذلك وقال: لا يصح وإليه ذهبت عائشة وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن علية وحكاه النووي عن داود الظاهري وإليه ذهب ابن حزم ويؤيد ذلك الإطلاقات القرآنية كقوله تعالى ) وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) النساء 23.
وذهب الجمهور إلى أن حكم الرضاع إنما يثبت في الصغير وأجابوا عن قصة سالم بأنها خاصة به كما وقع من أمهات المؤمنين لما قالت لهن عائشة بذلك محتجة به وأجيب بأن دعوى الاختصاص تحتاج إلى دليل وقد اعترفن بصحة الحجة التي جاءت بها عائشة ولا حجة في إبائهن لها كما أنه لا حجة في أقوالهن ولهذا سكتت أم سلمة لما قالت لها عائشة :أما لك في رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أُسوة حسنة ولو كانت هذه السنة مختصة بسالم لبينها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كما بين اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز واختصاص خزيمة بأن شهادته كشهادة رجلين.
وأجيب أيضاً بدعوى نسخ قصة سالم المذكورة واستدل على ذلك بأنها كانت في أول الهجرة عند نزول قوله تعالى (ادعوهم لآبائهم) وقد ثبت اعتبار الصغر من حديث ابن عباس ولم يقدم المدينة إلا قبل الفتح ومن حديث أبي هريرة ولم يسلم إلا في فتح خيبر بأنهما لم يصرحا بالسماع من النبي وأيضاً حديث ابن عباس مما لا تثبت به الحجة كما سيجيء ولو كان النسخ صحيحاً لما ترك التشبث به أمهات المؤمنين.
ومن أجوبتهم أيضاً حديث لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام وحديث إنما الرضاعة من المجاعة
وقد اختلفوا في تقدير المدة التي يقتضي الرضاع فيها التحريم على أقوال:
القول الأول : إنه لا يحرم منه إلا ما كان في الحولين وقد حكاه في البحر عن عمر وابن عباس وابن مسعود والعترة والشافعي وأبي حنيفة والثوري والحسن بن صالح ومالك وزفر ومحمد اهـ
وروي عن أبي هريرة وابن عمر وأحمد وأبي يوسف وسعيد بن المسيب والشعبي وابن شبرمة وإسحاق وأبي عبيد وابن المنذر.
القول الثاني : إن الرضاع المقتضي للتحريم ما كان قبل الفطام وإليه ذهبت أم سلمة. وروي عن علي ولم يصح عنه. وروي عن ابن عباس وبه قال الحسن والزهري والأوزاعي وعكرمة وقتادة.
القول الثالث: إن الرضاع في حال الصغر يقتضي التحريم ولم يحده القائل بحد وروي ذلك عن أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ما خلا عائشة. وعن ابن عمر وسعيد بن المسيب.
القول الرابع: ثلاثون شهراً وهو رواية عن أبي حنيفة وزفر.
القول الخامس : في الحولين وما قاربهما روي ذلك عن مالك وروي عنه أن الرضاع بعد الحولين لا يحرم قليله ولا كثيره كما في الموطأ.
القول السادس : ثلاث سنين وهو مروي عن جماعة من أهل الكوفة وعن الحسن بن صالح.
القول السابع: سبع سنين روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز.
القول الثامن: حولان واثنا عشر يوماً روي عن ربيعة.
القول التاسع : إن الرضاع يعتبر فيه الصغر إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يستغني عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا هو الراجح عندي(الشوكاني).
وبه يحصل الجمع بين الأحاديث وذلك بأن تجعل قصة سالم المذكورة مخصصة لعموم إنما الرضاع من المجاعة ولا رضاع إلا في الحولين ولا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ولا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم، وهذه طريق متوسطة بين طريقة من استدل بهذه الأحاديث على أنه لا حكم لرضاع الكبير مطلقاً وبين من جعل رضاع الكبير كرضاع الصغير مطلقاً لما لا يخلو عنه كل واحدة من هاتين الطريقتين من التعسف كما سيأتي بيانه، ويؤيد هذا أن سؤال سهلة امرأة أبي حذيفة كان بعد نزول آية الحجاب وهى مصرحة بعدم جواز إبداء الزينة لغير من في الآية فلا يخص منها غير من استثناه اللّه تعالى إلا بدليل كقضية سالم وما كان مماثلاً لها في تلك العلة التي هي الحاجة إلى رفع الحجاب من غير أن يقيد ذلك بحاجة مخصوصة من الحاجات المقتضية لرفع الحجاب ولا بشخص من الأشخاص ولا بمقدار من عمر الرضيع معلوم.
وقد ثبت في حديث سهلة أنها قالت للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (إن سالماً ذو لحية فقال: أرضعيه) وينبغي أن يكون الرضاع خمس رضعات لما تقدم في الباب الأول.انتهى