العدد المشروط لإقامة صلاة الجمعة فيه أقوال كثيرة ، أوصلها الحافظ ابن حجر فى “فتح البارى” إلى خمسة عشر قولا، ونقلها الشوكاني في نيل الأوطار وعلَّق عليها، وفيما يلي تلخيص لذلك .
القول الأول -تصح بواحد، ولا دليل عليه ، وهو لا يتفق مع معنى الاجتماع الموجود في الجمعة ، نقله ابن حزم ، وحكاه الدارمي عن الكاشاني .
القول الثاني - تصح باثنين ، إمام ومأموم ، لأن العدد واجب بالحديث والإجماع ، ولم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص ، فتقاس على صلاة الجماعة، حيث تصح باثنين ، فقد صح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : بت عند خالتي ميمونة-أم المؤمنين - رضي الله عنها ، فقام النبى ﷺ يصلي من الليل ، فقمت أصلي معه ، فقمت عن يساره ، فأخذ برأسي وأقامني عن يمينه ، رواه الجماعة ، وفي لفظ : صليت مع النبي ﷺ وأنا ابن عشر، وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه ، قال : وأنا يومئذ ابن عشر سنين . رواه أحمد .
والشوكاني يرجح هذا القول . ، وهو قول النخعى وأهل الظاهر .
القول الثالث -تصح باثنين غير الإمام ، ودليله أن العدد واجب كالجماعة ، وشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة ، وأقل عدد يحصل به الاجتماع هو اثنان . وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة .
القول الرابع -تصح بثلاثة والإمام رابعهم ومستنده حديث أم عبد الله الدوسية الذى أخرجه الطبراني وابن عدي عنها مرفوعا “الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة” وفي رواية “وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم الإمام ” وقد ضعَّفه الطبراني وابن عدي ، وهو قول أبي حنيفة ، وحكى عن الأوزاعي وأبي ثور، واختاره المزني والسيوطي وحكاه عن الثوري والليث بن سعد .
القول الخامس - تصح بسبعة ولا مستند له ، وحكى عن عكرمة .
القول السادس -تصح بتسعة ، ولا مستند له أيضا ، وحكى عن ربيعة .
القول السابع -: تصح باثني عشر بما فيهم الإمام ، ودليله حديث : كان النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عِير قد قدمت ، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأنزل الله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما . .. } الجمعة : 11 ، رواه البخاري ومسلم .
ووجه الاستدلال أن الجمعة صحت بهذا العدد، لكن يرد عليه بأنه دليل على أنها تصح باثني عشر فما فوقهم ، أما إنها لا تصح بأقل من ذلك فلا يدل عليه هذا الدليل .
كما استدل من قال بذلك بحديث الطبراني عن أبى مسعود الأنصاري : أول من قدم من المهاجرين مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة قبل أن يقدم النبي وهم اثنا عشر رجلا لكن هذا الحديث ضعيف ، وهو قول ربيعة في رواية وحكاه الماوردي أيضا عن الزهري والأوزاعي ومحمد بن الحسن .
القول الثامن -تصح باثني عشر غير الإمام ، أي بثلاثة عشر، ومستنده مستند القول السابع ، وهو قول إسحاق .
القول التاسع -تصح بعشرين ، ولا مستند له وهو رواية عن مالك .
القول العاشر- تصح بثلاثين ، ولا مستند له أيضا وهو رواية أخرى عن مالك .
القول الحادى عشر -تصح بأربعين بما فيهم الإمام ، ومستنده حديث أبي داود المتقدم في أن أسعد بن زرارة أول من جمَّع فى هزم النبيت ، وفيه أن عددهم يومئذ كان أربعين رجلا .
ووجه الاستدلال أن الإجماع على اشتراط العدد في صلاة الجمعة ، فلا تصح إلا بعدد ثابت بدليل ، وقد ثبت جوازها بأربعين ، فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صحيح ، وقد ثبت أن النبي ﷺ قال “صلوا كما رأيتموني أصلَّي” قالوا : ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين ، لكن أجيب عنه أنه لا دليل فى الحديث على اشتراط الأربعين ، بل هو يدل على صحتها بأربعين فمن فوقهم ، وأما عدم صحتها بأقل من ذلك فلا يدل عليه هذا الحديث ، لأنه واقعة عين ، وواقعة العين لا تدل على نفي غيرها، ففي القواعد الأصولية، وقائع الأحوال لا يحتج بها على العموم ، فالمعروف أن الجمعة لما فرضت بمكة لم يتمكن النبي ﷺ من أدائها ، فلما هاجر من هاجر كتب إليهم بأدائها ، فاتفق أن عددهم إذ ذاك كان أربعين في رواية الطبراني عن ابن عباس .
ومن أدلة هذا القول ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال : جمعنا النبي ﷺ وكنت اَخر من أتاه ونحن أربعون رجلا، فقال “إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم ” ورد عليه باحتمال أن تكون هذه الواقعة قد قصد بها النبي ﷺ أن يجمع أصحابه ليبشرهم لا ليصلي بهم جمعة، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد ، قال السيوطي : وإيراد البيهقى لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الأحاديث ما يدل للمسألة صريحا ، وهذا هو قول الشافعية .
القول الثانى عشر- تصح بأربعين غير الإمام ، وروى عن الشافعى أيضا ، ، وبه قال عمر بن عبد العزيز، ولعل دليله هو دليل القول السابق .
القول الثالث عشر-تصح بخمسين ، ومستنده حديث الطبراني مرفوعا “الجمعة على الخمسين رجلا ، وليس على ما دون الخمسين جمعة”وقد ضعَّفه السيوطي ، ومع ضعفه محتمل للتأويل ،لأن ظاهره أن هذه العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة، وهو قول أحمد بن حنبل ، وفي رواية عن عمر بن عبد العزيز .
القول الرابع عشر-تصح بثمانين ولا مستند له .
القول الخامس عشر - تصح بجمع كبير بغير قيد، ومستنده أن الجمعة شعار، وهو لا يحصل إلا بكثرة تغيظ أعداء المسلمين ، ونوقش ذلك بأن كونها شعارا لا يستلزم أن ينتفي وجوبها بانتفاء العدد الذى يحصل به ذلك .
على أن طلبها من العباد كتابا وسنة مطلق عن الشعار، فما الدليل على اعتباره ؟ وكتاب النبى ﷺ إلى مصعب بن عمير فى نظر يوم اليهود .
. . غاية ما فيه ان ذلك سبب أصل المشروعية، وليس فيه أنه معتبر فى الوجوب ، فلا يصح التمسك به لاعتبار عدد يحصل به الشعار، وإلا لزم قصر مشروعيتها على بلد يشارك المسلمين فى سكنه اليهود، وأنه باطل - انتهى .
لكن هذه المناقشة غير واردة لأن الشأن فى الجمعة أنها شعار وإن لم ينص عليه، ولا يشترط فى الشعار وجود يهود مع المسلمين ، فقد يزول السبب ويبقى الحكم كالرمل فى الأشواط الأولى فى الطواف لإظهار أن بالمسلمين قوة تدحض زعم المشركين أن المدينة أصابتهم بوبائها ، وبقي الرمل مسنونا إلى عهدنا هذا مع انتقاء السبب الأول في مشروعيته ، وهذا القول حكاه السيوطي عن مالك ، قال الحافظ ابن حجر: ولعل هنا الأخير ارجحها من حيث الدليل .
هذه هي الأقوال في اعتبار العدد الذي تنعقد به الجمعة ، وقد رأيت أن بعض الأئمة كمالك حكيت عنه عدة روايات في هذا الصدد ، وأن بعضها ليس له دليل والبعض الآخر دليله مناقش غير مسلَّم تماما .
ونرى انعقادها بأي عدد يوجد ، محافظة على الشعيرة ، وكلما كان العدد كبيرا كان أفضل وبخاصة إذا كان هناك مخالفون لنا في الدين ، ففي انعقادها بالعدد الكبير إظهار لاهتمام المسلمين بالعبادة وتقوية الروح الجماعية، وإعطاء مظهر رائع له تأثيره النفسي على من يشاهد هذا الجمع الكبير، في صلاته المنظمة ووحدته الروحية القوية .
قال الشوكاني بعد عرض الأقوال السابقة ومناقشة أدلتها : إن الاجتماع هو لذكر الله وشكره ، وهو حاصل بالقليل والكثير، بل من الواحد لولا ما قدمناه من أن الجمعة يعتبر فيها الاجتماع ، وهو لا يحصل بواحد ، وأما الاثنان فبانضمام أحدهما إلى الاَخر يحصل الاجتماع ، وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما فقال ” الاثنان فما فوقهما جماعة” كما تقدم في أبواب الجماعة وقد انعقدت في زمانه الصلوات بهما بالإجماع ، والجمعة صلاة، فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل ، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر فى غيرها، وقد قال عبد الحق : إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث وكذلك قال السيوطي: لم يثبت في شىء من الأحاديث تعبين عدد مخصوص – انتهى .
انظر: الحاوى للفتاوى للسيوطى : نيل الأوطار للشوكانى ، فتح البارى لابن حجر، والروض الأنف للسهيلى .