تمهيد في السحر :
ذكر العلامة العلم ابن القيم رحمه الله، في كتابه القيـم الطب النبوي ,” قد أنكر طائفة من الناس أن النبي ﷺ سُحر و قالـوا: لا يجوز هذا عليه ؛ وظنوه نقصا وعيبا. وليس الأمـر كما زعموا، بل هـو من جنس ما كان يعتريه صلي الله عليه وسلم من الأسقام والأوجـاع وهـو مرض من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسم: لا فرق بينهما”. وقد ثبت في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها أنـها قالـت ( سحـر رسول لله صلي الله عليه وسلم، حتى إنه كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن) وذلك أشد ما يكون من السحر. من هذا المدخل سوف نستعرض السحر لأن إصابة النبي صلي الله عليه وسلم بالسحر سوف يخدم هذا الموضوع الشائك والذي أصبح باب ضلال وإضـلال لكثير من الناس واختلاط الأمور بينهم.
فما هو السـحر؟
السحر: في لغة العرب بتشديد السين وتسكين الحاء هو: كل أمر يخفـى سببـه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع وكل ما لطف مأخـذه ودق. وجمعه أسحار وسحور، وتاريخ السحر قديـم بقـدم الإنسان على هـذه الأرض. ولقـد عرفت الأمم السـابقة السحر فمـا من أمـة من الأمـم أرسل إليها رسول إلا واتهم الرسول المرسل بالسحر والجنون، وقرن السحر بالجنون لأن بعضا من المسحورين تصدر منهم تصرفات مثل تصرفات المجانين، كما قال الله عز وجل ( كذلك ما أتى الذين من قبلـهم من رسول إلا قـالوا ساحـر أو مجنون*). ومن هذه الآية نستدل على أن السحر أمره قديم . حتى إن الرسول ﷺ لم يسلم مـن هذا الاتهـام. بل ومن إصابته به .
أنواع السحر الوارد في القرآن :
ينقسم السحر بشكله العام إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : سحر التخيل :
وهو أن يعمـد الساحـر إلـى القـوى المتخيلـة فيتصرف فيها بنوع من التصرف ويلقى فيها أنواعـا من الخـيالات والمـحاكاة وصورا مما يقصده من ذلك ثم ينزلها إلى الحس من الرائيـن بقـوة نفسه الخبيثة المؤثرة فيه فينظرها كأنها فى الخارج وليس هناك شيء من ذلك. وهذا النوع من السحر يستعمل فيه الساحر عنصرين هامين مؤثرين في الخيـال يستطيع بهما أن يتصرف في خيال المسحور كيفما يشاء فيريه ما يريد أن يرى. وهذان العنصران هما: 1 ـ سحر العيون 2 ـ والاسترهاب. واستشهادا على هذا القول من كتاب الله ، قوله عز وجل( قال ألقوا فلمـا ألقـوا سحروا أعين الناس و استرهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ) أي جعلوا أعيـن الناس ترى أشياء غير حقيقية وكأنها حقيقية كمثل : أن يرى الإنسان التراب يصير ذهبا والحديد يصبح ماء .. وهذا هو الذي حدث لقوم موسـى، إذ أنهـم رأوا الحبـال والعصي وهي تمشي وهي في واقع الأمر ثابتة جامدة مكانها ولكن بحكـم أنهم سحرت أعينهم صاروا يرونها تتحرك وتسعي .فقوة الخداع للعين والتمويه وخطف الأبصار بالخفة مع التأثير بالخوف كل ذلـك يؤثر في خيال الإنسان المراد سحره حتى يصبح خياله تحت سيطرة الساحر فيريه ما يريده أن يرى ويخيل إليه ما يريد أن يخيله إليه. لـذا قـال الله عـز وجـل(يخيل إليهم من سحرهم أنها تسعى ) وهذا يعنى أن التخـيل الذي حدث لهـم إنما تم عن طريق السحر. وبالمقابل وحتى يتبين لنا الحق من الباطـل نرى أن موسى عليه السلام دخل هـذه المعركـة هو وأخوه هارون وهما شخصان فقط ضـد أمة الكفر بقيادة فرعون و الذى قيل أن عددهم سبعون ألف ساحـر. ولاتناسب هنا بين الفريقين عدة و عددا ،و لكن الغلبة لمن كان مع الله ولو اجتمعـت الجن والإنس عليه. و صور لنا القران أن موسى خاف مما رأى عندما ألقي السحرة حبالهم وعصيهم ، وهذا الخوف من طباع البشر ولكن الله ثبت قلبه لكي يعلم الجميع أن القوة العلوية أقوي من السفلية. وأراد الله عـز وجـل بذلك أن يلقن الطاغية المتكبر وقومـه وأمثالهم درسا على مدى الحياة. فأمر رسوله موسى أن يثبت و ذلك في قوله عز وجل(قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى). ولكي يمده بالأمن والاطمئنان أمره بقوله عز وجل ( وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيـد ساحـر، ولا يفلـح الساحر حيث أتى) ).
القسم الثاني: السحر المؤثر:
وهذا النوع من أشد أنواع السحـر تداولا وأضرارا وله تأثير على المسحور في عقله وبدنه وقلبه. وهذا النوع من السحر عبارة عـن عزائـم ورقـى وعقــد وطلاسم شيطانية. وهو اتفاق وعقد بين الشياطين مـن الإنس والشياطيـن مـن الجن. وقد ذكر أبو محمد المقدسي في( الكافي) “السحـر عزائم ورقي وعقد يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل ويفرق به بين المرء وزوجه ويأخـذ أحـد الزوجين من صاحبه. قال تعالـى(فيتعلمون منهما ما يفرقون بـه بيـن المـرء وزوجه) . وقال تعالى (ومن شر النفاثات في العقد) يعنـي السواحـر اللواتـي يعقـدن في سحرهن وينفثن في عقدهـن. ولـولا أن للسحـر حقيقـة لم يؤمـر بالاستعاذة منه” . والواقع أن الساحر يأتي إليه الناس ظنا منهم أنه بيده نصرتهم من الظلــم الذي وقع عليهم من قبل الغير، أو أنه يملك من القدرة ما لا يستطيع غيره أن يفعـل ، وهم في واقع الأمر لا يعدونه ساحرا بل كل اعتقادهم أنه يعالج ويستخدم القرآن في علاجه . وذلك ما يلجأ إليه غالب السحرة من استخدام الآيـات القرآنيـة ، ولكنهم يدنسون القـرآن أو يكتبونه بالمقلوب. ولذا نجد أن الناس عندمـا يـرون الآيات المكتوبة على الأحجبة و التمائم ، فإنهم تطمئن أنفسهـم بها وهم لا يعلمون أنهم واقعون بين يدي ساحر من السحرة . ومعظـم ذلك يحـدث للناس الجهلـة بالعلم الشرعي وإن علا تعليمهم الدنيوي كأن يكون دكتورا فـي إحدى الجامعات أو أستاذا أو مثقفا ثقافة عالية ولكن ليس في شـرع الله ، أو أنسان ضعف في قلبه الوازع الديني ، وكذلك الذين ضعف عندهم الإيمان بالقضاء والقدر و يريدون أن يغيروا ما قدر الله عليهم ،دون أن يعلموا إنما ذلك من القدر الذي كتب عليهم . لذا فهم يتجهون الى هذا الصنف من الناس ظنا منهم أنهم أتقياء ومقربـون مـن الله ، وأن لديهم كرامات وكل ذلك مما يروجـه الناس بين بعضهم .ومـن هنا تكتسب الدعاية لبعض الأشخاص ، فيتجه إليهم القاصي والداني. وهكذا يذيع صيـت هؤلاء السحرة الدجالين ،
القسم الثالث: السحر المجازي:
وهذا النوع من السحر يقوم على الحيل الكيميائية و خفة اليد و على التمويـه والخداع و الكذب على ضعاف العقول. وهو يعرف في زماننا هـذا بالشعـوذة والدجل. و سمي سحرا مجازا لاشتراكه في المعنى اللغوي للسحر . فهو مما خفي سببه و لطف مأخذه و دق و جرى مجرى التمويه و الخداع . وغالبا ما نرى هذا النوع من السـحر مما يمارسه بعض الذين يشتغلون بالسيرك و كذلك من لهم علاقة بالشياطين، كالسحرة الذين يقومون بعمل السحر الحقيقـي و لهم معرفة بخواص المواد الكيميائية و الحيل العلميـة. ومن هذه النماذج تلك التـي يعتمد فيها بعض المشعوذون بوضع مادة على جـانبي صندوق الكبريت عنـد اشعال عود الثقاب اذا احتكت بها هذه المادة احترقت في معدن مثل الألمنيوم أو المعدن الذي سطحه أملس . فالدخان الخارج منها يتسرب على سطح المعدن على شكل مادة بنية اللون. و هذا الدخان بمجرد ملامسته لسطح رطـب فانـه يتحول الى دخان مرة أخرى. و عليه يقوم المشعوذ بحرق هذه المـادة ثـم إذا تحولت إلى دخان جامد في شكل مادة بنية اللون على سطح المعدن الذى حـرقت فيه يقوم بمسحها بسطح يده لتبقى المادة فيها شرط أن تكون اليد جافة ، فاذا أتاه شخص و شكا له مرضا معينا أو قال إنه مسحور فإنه يقوم بإحضار كوبـ مـن الماء يقرأ عليه بعض الآيات للتمويه ثم يرش يد الشخص المريض بهذا الماء بيده التي ليست فيها المادة ( الدخان المتجمد) ثم يمسح يد الشخص المريض فيخـرج منها الدخان بصورة كثيفة لفترة من الزمن، ثم يقول للمريض إن المرض قد خرج منك. أو يقوم بعض المشعوذون بإحضار قدر فيه ماء قليل و يضعون في داخـله حبرا أو شيئا من الصباغ ، وبحركة خفيفة يلصقون حجابا من الورق فـي الغطاء الذي يغطى به القدر و يلصقونه بواسطة الغراء ثم يجعلون الشخص ينظـر فـي داخل القدر فلا يرى شيئا. ثم يوضع القدر فوق النار فيغلي الماء بداخله فيغطى بالغطاء دون أن يرى المريض باطن الغطاء. فعندما يغطى القدر و بفعل الحرارة الشديدة و بخار الماء يذوب الغراء فيسقط الحجاب في داخل القدر، ثـم يكشـف الغطاء فينظر المريض في داخل القدر فيجد الحجاب أو التميمة في داخـل القدر فيقول له المشعوذ إنك كنت مسحورا و هذا هو سحرك فيصدقه المريض، وهناك من الحيل و الأكاذيب التي يستخدمها أولئك الكذابون و هي كثيرة لا تحصر. ولما كان السحر بهذه الدرجة من الخطورة و فيه تخريب البيوت و إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس، فهو كما وصفه النبي ﷺ من الموبقات السبع.فقد اعتنى الاسلام بالرد على السحرة و المشعوذين، . و قد حكم النبي صلى الله عليه و سلم بكفر من أتى السحرة والعرافين بقوله صلى الله عليه و سلم ” من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم.