يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:
أن المعاصي والكبائر -وإن أصر عليها صاحبها ولم يتب منها- تخدش الإيمان وتنقصه، ولكنها لا تنقضه من أساسه، ولا تنفيه بالكلية. والدليل على ذلك ما يأتي:
1. إنها لو كانت تهدم الإيمان من أصله، وتخرج صاحبها إلى الكفر المطلق، لكانت المعصية والردة شيئا واحدا، وكان العاصي مرتدا، ووجب أن يعاقب عقوبة المرتد، ولم تتنوع عقوبات الزاني والسارق وقاطع الطريق وشارب الخمر والقاتل. وهذا مرفوض بالنص والإجماع.
2. إن القرآن نص على أخوة القاتل لأولياء المقتول في آية القصاص حين قال: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان).
3. إن القرآن أثبت الإيمان للطائفتين المقتتلتين في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله…-إلى أن قال- …إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم) فأثبت لهم الإيمان والأخوة الدينية مع وجود الاقتتال، ومع قوله ﷺ في الحديث الصحيح: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم وجوه بعض)، وقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) وبهذا الحديث الأخير استدل البخاري -فيما استدل- بأن المعاصي لا يكفر صاحبها، لأن الرسول سماهما مسلمين مع توعدهما بالنار.
والمراد: إذا كان الاقتتال بغير تأويل سائغ.
4. إن حاطب بن أبي بلتعة ارتكب خطيئة تشبه ما يسمى الآن “الخيانة العظمى” حيث أراد نقل أخبار الرسول وتحركات جيشه إلى قريش قبيل فتح مكة، مع حرص الرسول ﷺ على كتمان ذلك عنهم. وقال له عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقد نافق. واعتذر الرسول ﷺ بأنه من أهل بدر، ولم يعتبر عمله ناقلا له من الإيمان إلى الكفر. ونزل القرآن يؤكد ذلك حيث نزل في شأنه أول سورة الممتحنة (يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) -إلى أن قال- (تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم).
فخاطبه الله فيمن خاطب بعنوان الإيمان، وجعل عدوه سبحانه وعدوهم واحدا، مع قوله: (تلقون إليهم بالمودة).
5. وقريب من ذلك ما نزل في شأن الذين قذفوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر. وكان أبو بكر حلف ألا يصله، فأنزل الله في شأنه (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم).
وإن قيل: إن مسطحا وأمثاله وتابوا، لكن الله لم يشترط -في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم- التوبة. كما قال ابن تيمية رحمه الله.
6. ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في قصة شارب الخمر، الذي أمر النبي ﷺ بضربه فضربوه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله. فقال: النبي ﷺ: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان) وفي رواية أخرى للبخاري: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) وفي سنن أبي داود في هذه القصة زيادة: (ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).
فهذه هي النظرة المحمدية المتسامحة إلى شارب أم الخبائث، فهو يأمر بضربه، ولكنه لا يرضى بلعنه وطرده من رحمة الله، ولا إخراجه من نطاق المؤمنين، بل يثبت الأخوة بينه وبينهم، وينهاهم أن يفتحوا ثغرة للشيطان إلى قلبه إذا سبوه وأذلوه علانية، بل يأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة، ويشعروه بالأخوة والمحبة، والحرص على هدايته، فعسى أن يرده ذلك عن غوايته.
7. وأكثر من ذلك ما رواه البخاري أيضا عن عمر بن الخطاب: أن رجلا على عهد النبي ﷺ، كان اسمه عبدالله وكان يلقب (حمارا) وكان يضحك رسول الله ﷺ قد جلده في الشراب، فأتى به يوما، فأمر به فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي ﷺ: (لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه لا يحب الله ورسوله) وفي بعض روايات الحديث: (لقد علمت أنه يحب الله ورسوله) وفي بعضها (ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله).
فهذا مع إدمانه الشرب، وإصراره عليه، وإنكاره منه، حتى نقل ابن حجر في الفتح عن ابن عبد البر أنه ضرب خمسين مرة، ينهى النبي عن لعنه، ويقرر أنه يحب الله ورسوله.
يقول الحافظ بن حجر في بيان فوائد هذا الحديث في “الفتح”:
( أ ) فيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له.
(ب) وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب، لأنه ﷺ أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، مع وجود ما صدر عنه.
(جـ) وأن من تكررت منه المعصية لا تنزع منه محبة الله ورسوله.
(د) ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم أن نفي الإيمان -عن شارب الخمر- (أي في حديث: لا يشرب الخمر وهو مؤمن)- لا يراد به زواله بالكلية، بل نفي كماله. اهـ من فتح الباري.
8. الأحاديث السابقة التي أوجبت لمن قال: “لا إله إلا الله” الجنة وإن زنى وإن سرق.
9. ما صح واستفاض عن النبي ﷺ أنه سيشفع لأهل الكبائر من أمته.
وهذا يدل على حكمين كبيرين:
أولهما: أنه لم يخرجهم باقتراف الكبيرة عن حظيرة أمته.
ثانيهما: أن الله سيرحمهم بهذه الشفاعة، إما بإعفائهم من دخول النار أصلا، وإن استوجبوها بذنوبهم. وإما بإخراجهم منها بعد أن دخلوها وعذبوا فيها زمنا فهم غير مخلدين في النار قطعا.