خصَّ الله هذه الأمة بيوم الجمعة، وجعله عيدا أسبوعيا لها، وقد اتخذ المسلمون من هذا اليوم عطلة لهم ليتفرغوا فيه لأعمال الجمعة قبل الصلاة من اغتسال وتبكير للمساجد وغير ذلك، ثم بعد ذلك يشتغلون بالدعاء عسى أن يوافقوا ساعة الإجابة، وفي ترك عطلة يوم الجمعة واتخاذ غيره مجاراة لليهود والنصارى ـ وقد أمرنا بمخالفتهم ـ أمر لا يجوز، وعلى المسلمين ألا يفرطوا في يوم الجمعة؛ لأنه عيدهم الذي هداهم الله إليه، فمن حيث جواز العمل فإنَّ العمل فيه جائز للأفراد أو لمن اضطر للعمل في هذا اليوم، أمَّا عموم الأمة فإنها تتخذ هذا اليوم عطلة عامة لها ولا تستبدله بغيره لأنه يوم اختص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله من شعائر دينهم.
وقد بيَّن ابن حجر الهيثمي في الفتاوى سبب هذا فقال في جامع الفتاوى:
وسئل رضي الله عنه: هل للمعلمين في ترك التعليم يوم الجمعة أثر ؟ ( فأجاب )
حكمة ترك التعليم وغيره من الأشغال يوم الجمعة أنه يوم عيد المؤمنين كما ورد، ويوم العيد لا يناسبه أن يفعل فيه الأشغال، وأيضا فالناس مأمورون فيه بالتبكير إلى المسجد مع التهيؤ قبله بالغسل، والتنظيف بإزالة الأوساخ، وجميع ما يزال للفطرة كحلق الرأس لمن اعتاده، وشق عليه بقاء الشعر؛ فإن الحلق حينئذ سنة، وكنتف الإبط، وقص الشارب، وحلق العانة، وقص الأظفار، والتكحل، والتطيب بشيء من أنواع الطيب، وأفضله المسك مع ماء الورد.
ولا أشك أنَّ من خوطب بفعل هذه الأشياء كلها مع التبكير بعدها لا يناسبه شغل فكان ذلك هو حكمة ترك سائر الأشغال يوم الجمعة، هذا فيما قبل صلاة الجمعة، وأما بعدها فالناس مخاطبون بدوام الجلوس في المساجد إلى صلاة العصر لما ورد في ذلك من الفضل العظيم.
وبعد صلاة العصر لم يبق مجال للشغل على أن الناس مأمورون بالاجتهاد في الدعاء في ذلك اليوم إلى غروب شمسه لعل أن يصادفوا ساعة الإجابة، فاتضح وجه ترك الشغل في ذلك اليوم جميعه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .أهـ
يقول الشيخ محمد رشيد رضا ـ صاحب مجلة المنار:
والذي ينبغي للمسلمين أن يجعلوا هذا اليوم [يوم الجمعة] عيد الأسبوع كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم ، وفضله على غيره وأن يجعلوه للاستحمام والصلاة والعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء.
ويقول الشيخ أيضا [بتصرف]:
للمسلمين يوم الجمعة، وقد ثبتت خصوصيته بنص كتابهم القرآن، وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، وعمل سلفهم الصالح، ولليهود يوم السبت بنص كتابهم التوراة وعمل سلفهم من عهد موسى صلى الله عليه وسلم ، وللنصارى يوم الأحد برأي بعض رؤساء الكنيسة لا بنصٍّ من المسيح عليه الصلاة والسلام ولا من حواريه في الإنجيل، والأمر الذي لا مراء فيه هو الواقع؛ وهو أن لكل ملة من الملل الثلاث يومًا، وأن المسلمين واليهود من النصوص الدينية على يومهم في كتبهما ما ليس للنصارى مثله يظن بعض الجاهلين منا أن أمر عمل الحكومة في يوم الجمعة سهل، وأنه لا ينافي الدين في شيء، إذا أمكن للمسلم أن يؤدي فرض الجمعة، وهذه نبذة ببعض ما ورد في الجمعة.
( 1 ) قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(الجمعة: 9 )
فأوجب الله تعالى السعي إلى الصلاة، وترك البيع في وقتها. ومثل البيع غيره من الكسب والأعمال التي تحول دون هذه الفريضة، وإن كانت من أعمال البر، وورد في الأحاديث من التغليظ على ترك الجمعة ما لم يرد في عبادة أخرى؛ ومنه:( إن من تركها ثلاث مرات طبع الله على قلبه)، وفي رواية:( فقد نبذ الإسلام وراء ظهره).
( 2 ) ورد في غسل الجمعة أحاديث متعددة صحيحة وحسنة، من أشدها تأكيدًا حديث:( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وحديث غسل يوم الجمعة واجب كوجوب غسل الجنابة؛ رواه الرافعي عن أبي سعيد الخدري بسند صحيح.
( 3 ) التبكير إلى المسجد، قال صلى الله عليه وسلم:( من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ) أي: غسلاً تامًا مثل غسل الجنابة لأجل الجمعة ( ثم راح ) أي إلى المسجد ( في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه ) أي: كأنما تصدق عليه بجمل أو ناقة.( ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي فضيلة البكور أحاديث وآثار كثيرة .
ولا يتيسر الغسل والتبكير إلى المسجد مع الاشتغال في دواوين الحكومة فلا شك أنَّها عائق عن هذه الأعمال الدينية المؤكدة .
( 4 ) يوم الجمعة عيد ملي [أي: شرعي] لنا في مقابلة يومي السبت والأحد لأهل الكتاب ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا والنصارى بعد غد ) وفي معناه أحاديث أخرى، وفي بعضها التصريح بتسمية عيدًا.
وفي مسند الشافعي وغيره أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم:( هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع؛ اليهود والنصارى) ، وفي رواية لابن أبي شيبة أنَّ جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( تكون عيدًا لك، ولقومك من بعدك، ويكون اليهود والنصارى تبعًا لك ) ، فهل يرضى مسلم جعله الله ورسوله متبوعًا في  الجمعة أن يتركها ويكون تابعًا لغيره في يوم عيده الديني؟ وهذا أمر مشهور عند المسلمين ، حتى قال الشاعر :
عيد وعيد وعيد صرن متجمعة      وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة
وقد ظهر بهذه الإشارات الوجيزة أن يوم الجمعة عيدنا الملي ، فلا نعدل به غيره، ولا نستبدل به سواه ، وإلا كنا تاركين لشعائرنا ، جانين على ديننا وجامعتنا ، وأما علة تمييزه ؛ فقد ورد من بيانها في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى خلق فيه آدم ، وفيه تقوم الساعة ، أي ينبغي لنا أن نشكر الله في هذا اليوم على خلقه إيانا ، ونستعد فيه ليوم لقائه..إلخ