نرى أنه على المسلم المعاصر بعض الواجبات تجاه السنة النبوية الشريفة ؛ ومنها :

أولاً : اعتقاد حُجيتها :
أول ما يجب علينا تجاه السنة النبوية أن نعتقد حجيتها , وأنها المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله (جل وعلا) , والبعْدية هنا في الفضل , أما في الاحتجاج فحجية السنة كحجية الكتاب , ومن واجبنا أن نعتقد أن كليهما وحي من عند الله (جل وعلا) .
فعن حسان بن عطية قال : “كان جبريل ينزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن” .
وقال – تعالى – : (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ؛ وكان فضل الله عليك عظيماً)[النساء:113] وقال – تعالى- : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى(4))[النجم](6) ؛ ولذا عنون الخطيب – في “الكفاية” – بقوله : ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله وحكم سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفي السنن عن المقدام بن معديكرِب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : “ألا إني أُوتيت القرآن ومثله معه , ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن , فما وجدتم فيه حلالاً فأحلوه , وما وجدتم فيه حراماً فحرموه , ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله” والأدلة على حجية السنة كثيرة مشهورة , والكلام في ذلك يطول فنكتفي بهذه الإشارة الموجزة الواضحة .

ثانياً : عدم معارضتها بآراء الرجال وأذواقهم , والذبّ عنها وردّ شبهات المنافقين واللادينيين:

فالواجب تقديم النقل على العقل , وفي الحقيقة ليس في السنة الصحيحة ما يعارض العقل الصحيح أو صريح المعقول وحيثما توهمنا التعارض في الظاهر فلنعلمْ – دون تردُّد – أن الحق ما جاءت به السنة الصحيحة وأن العقل – لا محالة – سيدرك ذلك عاجلاً أو آجلاً .
فالسنة لا تُعارَض بآراء الرجال , ولكن ليس معنى ذلك أن المرء – لأول وهلة – إذا قرأ حديثاً يخالف أقوال العلماء يتجرأ ويقول : هؤلاء العلماء خالفوا الحديث , ولا يكلف نفسه أن يعرف مستند العلماء ووجه قولهم , فهذا التصرف من الجهل والتطاول على أهل العلم , وإنما المقصود أن المسلم إذا بحث في معنى الحديث , وقول مَن خالف الحديث من العلماء , واجتهد في ذلك فظهر له أن الحديث كما فهمه , وأن العلماء قرروا ما فهمه ومَن خالف لم يظهر لمخالفته وجه راجح , فحينئذ عليه الأخذ بالحديث دون قول مَن خالفه .
أما أن تكون المسألة مجرد تسرُّع وتطاول على العلماء مع الجهل بوجه الحديث وعدم تكليف النفس الوقوف على تفسيره عند السلف والعلماء – فهذا شذوذ وإفساد , وليس تمسكاً بها .

ثالثاً : بذل الأسباب لحفظها من الضياع:
وحفظ السنة من الضياع أمر تكفل به رب العزة (جل وعلا) حين قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9](15) , ولكن ذلك لا يعفينا من السعي في حفظها كما سعى الصحابة في حفظ كتاب الله من الضياع والتحريف , مع أن الله – جل وعلا – متكفل بحفظه , ومن ثم جمع أبو بكر (رضي الله عنه) القرآن وكتب عثمان – رضي الله عنه – المصاحف , وكما اهتم الصحابة – رضوان الله عليهم – بحفظ كتاب الله (جل وعلا) فكذا كانت عنايتهم شديدة بالسنة والمحافظة عليها ولنا فيهم أسوة حسنة .
لقد كان سعيهم في حفظها من الضياع بوسيلتين هما الحفظ والتدوين , ولكل منهما دوره في حفظ السنة , فإنه إذا فُقد الرجال الحفاظ بقيت المخطوطات والكتب , فيحملها قوم من جديد , وإذا فقدت المخطوطات والكتب بقي الرجال يحملون السنة في صدورهم , فيمكن كتابتها من جديد .

رابعاً : الاجتهاد في تنقيتها من الكذب وتمييز صحيحها من ضعيفها :
وهذا الواجب – وهو تحقيق الحديث النبوي – فرض كفاية , ولا يزال ملقًى على عاتق الأمة منذ وقوع الفتن في الصدر الأول وإلى الآن .

وليس مطلوباً من المشتغلين بعلم الحديث أن يكفّوا عن مواصلة جهودهم في هذا الشأن والاستفادة من مشايخه , كلا , وإنما المطلوب ألا ينسوا دورهم في قيادة الأمة , وفي حفظ عقيدتها وشريعتها في الواقع العملي من المسخ والتحريف .

خامساً : تدارُسها والسعي إلى نشرها وإحيائها وتبصير الناس بها :
فينبغي أن يشيع بيننا دراسة الحديث النبوي الشريف وفهمه , وليكن ذلك في بيوتنا وفي مساجدنا , كلٌّ حسب طاقته , فقد يلتقي البعض على دراسة (الأربعين النووية) , ويقرأ آخرون في (رياض الصالحين) , وآخرون يتدارسون (جامع العلوم والِحكَم) , وآخرون يتدارسون كتب السنة كالصحيحين وغيرها .

ثم ينبغي لمن وعى ذلك أن يسعى في نشره وتبصير الناس به كما في الحديث الصحيح عند أبي داود والترمذي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : “نضر الله امرءاً سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها فَرُبَّ مبلغ أوعى من سامع” ويلحق بذلك إحياء السنن المهجورة وحث الناس عليها , وإحياء السنن المهجورة هو المقصود في حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند مسلم وغيره : “مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده , من غير أن ينقص من أجورهم شيء ..” , فالحديث وارد في إحياء سنة وحث الناس عليها , وقصته أن قوماً فقراء مخرقي الثياب قدموا المسجد , فقام رجل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتصدق عليهم فتبعه الناس واقتدوا بفعله , فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذلك الحديث مُثنياً على ذلك الرجل .

لكن توجد هنا ملاحظة : وهي مراعاة التدرج والرفق في إحياء هذه السنن , فبعض الناس قد يستنكرون – بشدة – بعض السنن بعدما قضوا دهراً طويلاً من أعمارهم لم يسمعوا بها , وحينئذ ينبغي أن يكون موقفنا وسطاً بين طرفين , بين مَن يتجاهل هجران تلك السنة ويرى عدم المحاولة في هذه الحالة , ومَن يريد تغيير هذا الهجران بشدة – أو على الفور – مهما أدى إليه من فتنة أو نفور أو وحشة بين الناس وحَمَلة السنة , فالأول متقاعس عن القيام بدوره نحو السنة , والآخر أراد القيام بدوره , لكن دون فقه , كمن يبني قصراً ويهدم مِصراً , فليس كل مَن ابتغى خيراً أقدم عليه دون نظر في العواقب , وإلا فكم أراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه فعل خير ولكن توقفوا دفعاً لشر أو مفسدة أكبر , ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – لعائشة (رضي الله عنها) : “لولا قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير : بكفر – لنقضت الكعبة , فجعلت لها بابين , باب يدخل الناس , وباب يخرجون , ففعله ابن الزبير”(22) . ومنه قول ابن مسعود – رضي الله عنه – لما أتم عثمان (رضي الله عنه) الصلاة بمِنى , وكان ابن مسعود يريد السنة , وهي القصر إلا أنه أتم الصلاة وراءه قائلاً : “الخلاف شر” , إلى غير ذلك من الأمثلة .

والمقصود هو الحرص على إحياء السنة , لكن مع التدرج واتقاء الشرور التي ربما يكون دفْعها أحب إلى الله (تعالى) من الإتيان بتلك السنة .

سادساً : التمسك بها والتزامها , علماً واعتقاداً , وعملاً وسلوكاً والتحلي بأخلاق أهلها :
وهذا هو المقصود لذاته من حفظ السنة ودراستها , فالعلم يراد للعمل وسعادة العبد في الدنيا والآخرة في التمسك بما في كتاب الله (تعالى) وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – , ويلحق بها ما سنَّه الخلفاء الراشدون لقوله – صلى الله عليه وسلم – : “فإنه من يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي , عَضّوا عليها بالنواجذ , وإياكم ومحدثاتِ الأمور ؛ فإن كلَّ بدعة ضلالة” .

وقال – صلى الله عليه وسلم – : “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً , كتاب الله وسنتي , ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض) , وقال – صلى الله عليه وسلم – : “تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة , قالوا : مَن هي يا رسول الله ؟ , قال : ما أنا عليه وأصحابي”.

فمن أعظم التمسك والعمل بسنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الرجوع إليها مع كتاب الله تعالى عند التنازع وردّ الأمور إليها , لا إلى قوانين البشر , ولا يتحقق إيمان لأحد إذا لم يكن احتكامه للكتاب والسنة , قال (تعالى) : (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ)[النساء:59] , وكما قال العلماء فالرد يكون إليه – صلى الله عليه وسلم – في حياته وإلى سنته بعد مماته , وقال – تعالى – : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[النساء:65] , وقال – جل وعلا – : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً) [الأحزاب:36] .
قال ابن سِيرين : “كانوا – أي الصحابة – يتعلمون الهدى (أي السيرة والهيئة والطريقة والسَّمْت) كما يتعلمون العلم” .

وقال بعضهم لابنه : “يا بني لأن تتعلم باباً من الأدب أحب إليَّ من أن تتعلم سبعين باباً من أبواب العلم” .
وقال أبو حنيفة : “الحكايات عن العلماء أحب إليَّ من كثير من الفقه ؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم” .
وقال الحسن البصري – رحمه الله – : “إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين” .
وقال ابن المبارك – رحمه الله – : “تعلمت الأدب ثلاثين سنة , وتعلمت العلم عشرين سنة” .
وعن الحسن قال : “كان طالب العلم يرى ذلك في سمعه وبصره وتخشُّعه” .
ونختم بقول الشافعي – رحمه الله – : “ليس العلم ما حُفظ , العلم ما نَفع” .