روى مسلم عن أبي هريرة قال: أُرسل ملك الموت إلى موسى ـ عليه السلام ـ فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر.
قال القرطبي “ج 6 ص 132” واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عَين الملك وفقئها على أقوال، منها: أنها كانت عينا مُتخيلة لا حقيقة، وهذا باطل؛ لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له، ومنها أنها كانت عينًا معنوية، وإنما فقأها بالحجة. وهذا مجاز لا حقيقة، ومنها أنه ـ عليه السلام ـ لم يعرف ملَك الموت، وإنما رأى رجلاً دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه، فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها. وتجب المُدافعة في هذا بكل ممكن، وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصك. قاله الإمام أبو بكر من خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث، وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: يارب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت. وأيضًا قوله في الرواية الأخرى: أجب ربك. يدُل على تعريفه بنفسه. والله أعلم.
ومنها أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان سريع الغضب، إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته، وسرعة غضبه كان سببًا لصكه ملك الموت. قال ابن العربي: وهذا كما ترى ، فإن الأنبياء معصومون من أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب.
ومنها ـ وهو الصحيح من هذه الأقوال ـ أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه، لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من “أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره” فلما جاء على غير هذا الوجه الذي أعلم، بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانًا لملك الموت، إذ لم يصرح له بالتخيير.
ومما يدل على صحة هذا أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيَّره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم، والله بنبيه أحكم وأعلم، هذا أصح ما قيل في وفاة موسى ـ عليه السلام ـ ، وقد ذكر المُفسرون في ذلك قصصًا وأخبارًا الله أعلم بصحتها، وفي الصحيح غنية عنها، وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يُوشع رآه بعد موته في المنام فقال له: كيف وجدت الموت؟ فقال: كشاة تسلخ وهي حية ، وهذا صحيح معنى. قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الصحيح “إن للموت سكرات” انتهى ما قاله القرطبي.
وجاء في “مشارق الأنوار” للعدوي ص 14: أخرج أحمد والبزَّار وصححه عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “كان ملَك الموت يأتي الناس عَيانًا، فأتى موسى ـ عليه السلام ـ فلطمه ففقأ عينه..” فكان بعد يأتي الناس خفية وذكر العارف الشعراني ـ بعد أن حكى رواية للإمام الترمذي بمثل هذا ـ إنما فقأ موسى عين ملك الموت بإذن من ربه عز وجل؛ لأنه معصوم، ولذلك لم يعاقبه الله على ذلك.
وجاء في كتاب “تأويل مختلف الحديث” لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276هـ “ص 86” أن الله أعطى الملائكة قوة تتشكل بها كما تشاء، كما أعطى الجن هذه القوة، ثم قال: ولما تمثل ملك الموت لموسى ـ عليه السلام ـ وهذا ملك الله وهذا نبي الله وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل، وليست حقيقة، وعاد الملك إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شيء.