أصدق ما قيل: إن الذين يتشككون في الدين إما جهلاء، أو متعلمون تضخمت في أذهانهم بعض المعلومات، ذلك أن إثارة الشبهات حول موضوع كاستلام الحجر الأسود، وردّ الأحاديث الواردة فيه ببساطة ضلال مبين، وغفلة عن طبيعة العلم، وطبيعة الدين.

فطبيعة العلم: أن ترد جزئياته إلى قواعده، وعلم الحديث له قواعده وأصوله التي وضعها علماؤه لمعرفة المقبول من المردود في الأحاديث، وطبقوها بكل أمانة ودقة ما استطاعوا، وبذلوا جهود الأبطال في سبيل تنقية السنن النبوية، وتبليغها إلينا .

أما الأحاديث التي رووها في شأن الحجر الأسود فنورد بعضها.

ـ روى البخاري عن ابن عمر – وسئل عن استلام الحجر الأسود – فقال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستلمه ويقبله .
ـ وعن نافع قال: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده ثم قبل يده، وقال ” ما تركته منذ رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفعله ” متفق عليه .

وعن عمر: أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقبلك ما قبلتك ” رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة .

قال الطبراني: إنما قال عمر ذلك، لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت تفعل العرب في الجاهلية، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله، لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته، كما كانت الجاهلية تعبد الأُوثان .

والأحاديث المذكورة أحاديث قولية صحيحة ثابتة، لم يطعن فيها عالم من علماء السلف أو الخلف، على أن الأمر أكثر من ذلك، فإن هذه سنة عملية تناقلتها الأجيال منذ عهد النبوة إلى الآن بلا نكير من أحد، فأصبحت من مسائل الإجماع، ولا تجتمع الأمة على ضلالة، وهذا وحده أقوى من كل حديث يروى، ومن كل قول يقال .
هذا من ناحية العلم .
وأما من ناحية الدين:

فالمؤمنون يعرفون تمام المعرفة أنه يقوم أول ما يقوم على الإيمان بالغيب (في جانب الاعتقاد)، وعلى الخضوع والانقياد لأمر الله (في جانب العمل) وهذا هو معنى لفظ الدين، ولفظ العبادة .

والإسلام – باعتباره دينًا – لا يخلو من جانب تعبدي محض، وإن كان أقل الأديان في ذلك . وفي الحج – خاصة – كثير من الأعمال التعبدية، ومنها تقبيل الحجر الأسود، والأمور التعبدية هي التي تعقل حكمتها الكلية وإن لم يفهم معناها الجزئي، والحكمة العامة فيها هي حكمة التكليف نفسه، وهي ابتلاء الله لعباده ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه .
الأمور التعبدية هي التي تكشف عن العبودية الصادقة لله من العبودية الزائفة . العبد الصادق يقول عند أمر الله مقالة الرسول والمؤمنين: (سمعنا وأطعنا)، والعبد المتمرد على ربه يقول ما قاله اليهود من قبل: ” سمعنا وعصينا ” . ولو كان كل ما يكلف به العبد مفهوم الحكمة للعقل جملة وتفصيلا، لكان الإنسان حينما يمتثل إنما يطيع عقله قبل أن يكون مطيعًا لربه.

وحسب المسلم أنه – حين يطوف بالبيت، أو يستلم الحجر – يعتقد أن هذا البيت وما فيه أثر من آثار إبراهيم عليه السلام، ومن إبراهيم ؟ إنه محطم الأصنام، ورسول التوحيد وأب الملة الحنيفية السمحة (إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين). (النحل: 120)