ما ورد من تحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض فضائله ومناقبه لا يتعارض مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفاخر بالأحساب. ذلك أن حديثه عن بعض فضائله جاء أحيانا أثناء الحرب التي تقتضي إظهار العزة والأنفة ، وفي غير الحرب يحمل ذكره صلى الله عليه وسلم لمناقبه على أنها من التحدث بنعمة الله عليه، أي أنه يحمد الله أن فضله وأنعم عليه لا أنه يستطيل بذلك، فضلا عن أنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا ببيان فضله لأمته لأنها جزء من الدين.

وقد سئل الدكتور عمر بن عبد الله المقبل:

إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يفتخر بالأنساب، ويستدل على ذلك بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبقول النبي أيضا في معركة حنين: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.

فأجاب : اعلم – بارك الله فيك – أنه لا يمكن أن يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء ويكون متعارضاً ومتناقضاً، فيبقى دور طالب العلم هو في التوفيق بين ما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- بأحد الأوجه المعروفة عند أهل العلم في التوفيق بين النصوص التي ظاهرها التعارض، وحينما أقول: صح، فهذا يعني أننا يجب أن نتأكد من صحة ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ ليس كل ما يروى عنه صحيحاً – كما هو معلوم-.

والحديثان صحيحان – مع التنبيه إلى أن زيادة “ولا فخر” ليست في صحيح مسلم، وكذلك ما يتعلق بالنهي عن التفاخر بالأحساب، فهو يكاد يصل إلى حد التواتر، فيبقى الجمع بين ما ذكرته فيقال: الجمع بين هذه النصوص بأحد الأوجه التالية:

الوجه الأول: أن الذي ورد ذمه في النصوص هو ما كان على سبيل التفاخر، والتنقص للآخرين، وهذا ممتنع في حقه – صلى الله عليه وسلم-، وعليه فإذا خلا الإخبار من هذا السبب فلا حرج فيه، قال شيخ الإسلام – في (المنهاج 7/256): “إن التفضيل إذا كان على وجه الغض من المفضول في النقص له نهي عن ذلك، كما نهى عن تفضيله على موسى، وكما قال لمن قال: يا خير البرية، قال: “ذاك إبراهيم”، وصح قوله: “أنا سيد ولد آدم، ولا فخر آدم” انتهى، وسيأتي مزيد إيضاح لذلك في كلام ابن القيم بعد قليل.

الوجه الثاني: أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: “أنا النبي لا كذب” كان في غزوة حنين، وفي مقام حرب، وهو مقام يحتاج إلى إظهار القوة البدنية والقلبية، ومن ذلك الفخر على العدو – وهو جائز حينها – وعلى هذا توجه كلمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المقام، وينظر في هذا (منهاج السنة 8/77-78) للإمام ابن تيمية ففيه بحث لطيف.

يقول النووي -رحمه الله- في (شرحه على صحيح مسلم 12/120): “ومعنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: “أنا النبي لا كذب” أي: أنا النبي حقاً فلا أفر، ولا أزول، وفي هذا دليل على جواز قول الإنسان في الحرب: أنا فلان، وأنا ابن فلان، ومثله قول سلمة: أنا ابن الأكوع، وقول علي -رضي الله عنه-: أنا الذي سمتني أمي حيدره، وأشباه ذلك، وقد صرح بجوازه علماء السلف، وفيه حديث صحيح، قالوا: وإنما يكره قول ذلك على وجه الافتخار كفعل الجاهلية والله أعلم” انتهى كلامه.

الوجه الثالث: أن هذا الكلام منه -صلى الله عليه وسلم- خرج منه مخرج التحدث بنعمة الله -تعالى-،ولا مدخل فيه للفخر، وقد أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يتحدث بنعمته عليه، فقال: “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ” (الضحى:11). قال النووي في (شرحه على صحيح مسلم 15/37) [وينظر: 15/121]: “وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “أنا سيد ولد آدم” لم يقله فخراً، بل صرح بنفي الفخر في غير مسلم، في الحديث المشهور: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”، وإنما قاله لوجهين: أحدهما: امتثال قوله -تعالى-: “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ”، والثاني: …”سيأتي ذكره قريباً في موضعه.

وقال العلامة ابن القيم في (تحفة المودود 126) – في جوابه عن حديث عبد الله بن الشخير الذي قال فيه -: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: أنت سيدنا، فقال: “السيد الله!” قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: “قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان”، ولا ينافي هذا قوله: “أنا سيد ولد آدم” فإن هذا إخبار منه عما أعطاه الله من سيادة النوع الإنساني، وفضله وشرفه عليهم” انتهى.

الوجه الرابع: ما ذكره النووي في الوجه الثاني في جوابه الآنف الذكر عن حديث”أنا سيد ولد آدم ولا فخر”، وهو: “أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته؛ ليعرفوه ويعتقدوه، ويعملوا بمقتضاه، ويوقروه -صلى الله عليه وسلم- بما تقتضي مرتبته كما أمرهم الله -تعالى-“.

وقال ابن القيم في (المدارج 3/86): “وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أنا سيد ولد آدم، ولا فخر!”، فكيف أخبر بفضل الله ومنته عليه! وأخبر أن ذلك لم يصدر منه افتخاراً به على من دونه، ولكن إظهاراً لنعمة الله عليه وإعلاماً للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه؛ لتعرف الأمة نعمة الله عليه وعليهم، ويشبه هذا قول يوسف الصديق للعزيز: “اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”(يوسف: من الآية55)، فإخباره عن نفسه بذلك؛ لما كان متضمناً لمصلحة تعود على العزيز، وعلى الأمة، وعلى نفسه كان حسناً، إذ لم يقصد به الفخر عليهم، فمصدر الكلمة، والحامل عليها يحسنها ويهجنها، وصورته واحدة” انتهى.

وقال ابن عبد البر – في (التمهيد 20/39) مقرراً جواز مدح الرجل لنفسه، ونفيه عن نفسه ما يعيبه بالحق الذي هو فيه، إذا دفعت إلى ذلك ضرورة، أو معنى يوجب ذلك – قال -رحمه الله-: “ومثل هذا كثير في السنن، وعن علماء السلف لا ينكر ذلك إلا من لا علم له بآثار من مضى”، وينظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: (116).