يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :-

فلا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان (أميا) من بداية حياته إلى نهاية العهد المكي، والصحيح أنه ظل أميا إلى نهاية حياته، فعاش ومات أميا، والأمية معجزة بالنسبة إليه، وصفة نقص؛ بالنسبة لنا.

وقد دلت على أميته النصوص المتوافرة، وحقائق السيرة والتاريخ.
فأما النصوص، فقد قال تعالى في أهل الكتاب {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر…}الأعراف:157.
وقال: {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}الأعراف:158.
وقال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمها الكتاب والحكمة…} الجمعة:2.
والأمي في هذه الآيات له معنيان:
الأول:
من لا يقرأ ولا يكتب.
والثاني: من ليس له كتاب ديني مثل التوراة والإنجيل.
وهذا المعنى الثاني محتمل في هذه الآيات، ولكن يرجح المعنى الأول آية كريمة ،وحديث شريف.
فأما الآية فقوله تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذا لارتاب المبطلون} العنكبوت:48.
فقوله {وما كنت تتلو} نفي للقراءة، وقوله {ولا تخطه بيمينك} نفي للكتابة.

وقوله{إذًا لارتاب المبطلون} بيان للعلة التي جعله الله من أجلها أميا لا يقرأ ولا يكتب، حتى لا يرتاب ويتشكك المبطلون، ويقولوا: إنما قرأ كتب الأقدمين وجاء منها بهذه الأشياء. فأميته المحققة نفت هذه الريبة بلا نزاع.
وأما الحديث الشريف، فما رواه الشيخان عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: ” نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب ” متفق عليه.
فقد فسر أمية الأمة بنفي الكتابة والحساب عنها، وهذا تعريف معتبر عند الكثيرين من التربويين اليوم للأمي: وأنه هو الذي لا يكتب ولا يحسب، أي لا يعرف الحساب.

وهذه الأمية ـ كما قلنا ـ مأثرة ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. إذ كيف يصدر عن هذا الأمي كل هذه العلوم النافعة، وهذه الحكم البالغة، وهذه الكلم الجامعة، وهذه التشريعات العادلة، وهذه الآداب الباهرة، وهذه التوجيهات الرشيدة.
وقد قال البوصيري رحمه الله في بردته:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم!

وقد توهم بعض العلماء أن النبي عليه السلام في آخر حياته عرف الكتابة، بدليل أنه محا اسمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من وثيقة صلح الحديبية حين رفض علي رضي الله عنه أن يمحوها.
ولا يستبعد من فعله عليه الصلاة والسلام أنه يعرف صورة اسمه وصفته (محمد رسول الله) ويمحو الكلمة التي بعد الاسم، أو يكون معنى (محاها) أنه أمر بمحوها، كما يقال: كتب السلطان لفلان بكذا، أي أمر به، وكما نقول: بنى أبو جعفر المنصور مدينة بغداد. والمراد: أمر ببنائها.

وممن ذهب إلى أنه عليه السلام عرف الكتابة في أواخر حياته: أبو الوليد الباجي، أحد أعلام المالكية المغاربة، وشارح (الموطأ) ولما قال ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة، وسب على المنابر، وقد دافع عن نفسه بالمناظرة، والكتابة إلى علماء الأطراف.
وجل ما اعتمد عليه الباجي ومن وافقه أو وافقهم: حديث البخاري ومسلم في صلح الحديبية، وفيه: فأخذ رسول الله الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: ” هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ..” الحديث.

والحديث يعلن صراحة أنه ” ليس يحسن يكتب” وأما كتابته: هذا ما قضى عليه محمد بن عبد الله. بدلا مما كان كتبه علي: محمد رسول الله. فلا يدل على أكثر من معرفته ببعض الكلمات مثل ” محمد بن عبد الله ” ولكن هذه المعرفة محدودة لا تنقله من أمي إلى كاتب.
وقد رويت لنا حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم مفصلة، فلم يعرف أنه كتب إلى ملك أو أمير أو ما هو دون ذلك، أو كتب شيئا من القرآن المنزل عليه.
ومما استدلوا به، ما رواه ابن ماجة مرفوعا: مررت ليلة أسري بي مكتوبا على الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر” والقدرة على القراءة فرع الكتابة.

والحديث مما تفرد به ابن ماجة عن أصحاب السنن، وذكر البوصيري في زوائد ابن ماجة، أن في إسناده راويا ضعيفا، وقال الشيخ الألباني في ضعيف الجامع الصغير: ضعيف جدا، فلا يعول عليه. على أن المتن مخالف للعقل، إذ كيف يكون القرض الذي يرد أفضل من الصدقة التي لا ترد.
على أن الحديث يمكن تأويله.

وقد ألف الشيخ أحمد بن حجر قاضي المحكمة الشرعية الأولى في قطر كتابا فند فيه دعاوى القائلين بمعرفته للكتابة، سماه “الرد الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر” فليرجع إليه.
وأما ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم كتب تعاويذ بيده، فهذا لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يستعيذ بالله تعالى، وصحت عنه استعاذات كثيرة وفيرة، وكان يعوذ بعض الناس ـ وخصوصا الأطفال ـ بالله تبارك وتعالى، كما كان يقول للحسن والحسين: ” أعيذك بكلمات الله التامة . من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة “.
ولا أعرف مصدرا معتمدا قال: إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كتب تعاويذ بيده. وكأنما يريد هذا القائل أن يضمه عليه الصلاة والسلام إلى زمرة الذين يروجون هذه الأشياء بين العوام، وهو عليه الصلاة والسلام قد أعلن حربا على الذين يتاجرون بالكهانة والعرافة والتمائم والرقى الشركية ونحوها. كما صحت بذلك الأحاديث.