اتّفق الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة والشافعي على أن وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة الظُّهر، الذي يدخل بزوال الشمس، وانفرد أحمد بن حنبل بالقول بدخول وقتها قبل الزوال.
وحجّة الجمهور: أن فريضة الجمعة بدل فريضة الظُّهر، فهي خامِسة يومها وليست فريضة زائدة ، فوقتها هو وقت ما كانت بدلاً عنه وهو الظهر، ويؤكِّد ذلك فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه بدليل ما يأتي:
(أ) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي الجمعة حين تَميل الشمس. رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي.
(ب) عن أنس أيضا قال: كنا نصلِّي مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجمعة، ثم نرجع القائلةَ فنُقيل.رواه البخارِي وأحمد، والقائلة هي القَيلولة ، أي النّوم أو الاستراحة بعد الظُّهر.
(جـ) عن سلمة بن الأكوع قال: كنّا نجمع مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا زالت الشمس، ثم نرجِع نتبع الفَيء، رواه البخاري، والفَيء هو الظِّل.
(د) عن سُويد بن غفلة أنه صلّى مع أبي بكر وعمر حين تزول الشمس، رواه ابن أبي شيبة وإسناده قوي.
(هـ) صحّت الروايات عن علي والنعمان بن بشير وعمرو بن حريث ـ رضي الله عنهم ـ أن صلاةَ الجمعة بعد الزوال.
وقد جاء في بعض الروايات: أحيانًا نجد فيئًا، وأحيانا لا نجد، فهذه الأحاديث والآثار تدلّ على أن صلاة الجمعة يدخل وقتها بالزوال كالمُعتاد في وقت صلاة الظهر، وتتبُّعهم الفيء الذي يجدونه أحيانًا وأحيانًا لا يجدونه يُشير إلى مبادَرتهم بصلاتِهم الجمعة عقب الزوال، وأن الظِّلّ كان قصيرًا لقصر البيوت، ولقصره كأنه غير موجود لعدم وِقايته من حرارة الشمس.
واستدلّ الحنابلة بظاهر بعض الروايات الصحيحة، وبروايات أخر… ليست قويّة منها:
(أ) عن أنس قال: كنا نبكِّر بالجمعة، ونَقيل بعد الجمعة، رواه البخاري، وفي لفظ له أيضا: كنا نصلِّي مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجمعة، ثم تكون القائِلة، فظاهر الحديث أنّهم كانوا يصلُّون الجمعة باكِر النّهار، أي أوّله، قال الحافظ ابن حجر ردًّا على هذا الاستدلال ليلتقي مع الرّوايات الأخرَى،كِنّ طَريقَ الإجماعِ أولَى من دَعْوى التّعارُضِ، وقد تقرّر أن التبكير يُطلَق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره، وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدؤون الصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت عادتهم في صلاة الظهر في الحَرّ، فإنهم كانوا يَقيلون ثم يصلُّون ، لمشروعيّة الإبراد، أي تأخير صلاة الظهر حتى يتلطّفَ الجوّ.
(ب) عن أنس قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اشتدّ البرد بكّر بالصلاة، وإذا اشتد الحرّ أبْردَ بالصلاة يعني الجمعة ، رواه البخاري ، قالوا: إن التبكير يُفهم من فعلها قبل الزوال، وأُجيب بما أُجيب به في الحديث السابق، وقوله يعني الجمعة، يحتمل أن يكون من كلام التابعي الذي روى عن أنس، أو مَن هو دون التابعي، فهو ليس من كلام أنس؛ لأن الروايات عن أنس، أنّه كان يبكّر بها مطلَقًا، كما أخرجه الإسماعيلي وليس فيه قوله: يعني الجمعة.
(جـ) عن سهل بن سعد قال: ما كنا نَقيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة، رواه الجماعة وزاد أحمد ومسلم والترمذي، في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا: إنّ الغداء والقيلولة محلُّهما قبل الزوال، وحكَوا عن ابن قتيبة أنه قال: لا يسمّى غداء ولا قائلة بعد الزوال، وأجيب بأن القيلولة هي نوم نِصف النهار بسبب شدّة الحَرّ، وذلك يكون بعد الزّوال، وكيف يكون غداء قيلولة قبل الزوال. وقد اختلف أصحاب أحمد في الوقت الذي تصحُّ فيه قبل الزوال، هل هو الساعة السادسة أو الخامسة، أو وقت دخول صلاة العيد في أول النهار؟
(د) عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصلِّي الجمعة ثم نذهب إلى جِمالنا فنُريحها حين تزول الشمس ، رواه مسلم وأحمد والنسائي قالوا: إن راحةَ الجِمال حين الزوال بعد صلاة الجمعة دليل على أنّها صُلِّيَت قبل الزوال. وأُجيب بأن قوله: حين تزول الشمس أي في أول وقت زوالها أو قَريبًا منه مما يدلُّ على شدة التّبكير بالصلاة في أول وقتِها.
(هـ) ثبت أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخطُب خُطبتين ويجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكِّر الناس، كما في صحيح مسلم من حديث أمِّ هشام بنت حارثة أخت عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: ما حفِظتُ “ق والقرآن المَجيد” إلا مِن في “فم” رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ وهو يقرؤها على المِنبر كل جمعة، وعند ابن ماجه من حديث أبي بن كعب أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قرأ يوم الجمعة “تبارك” وهو قائم يذكّر بأيّام الله. وكان يصلّي بسورة الجمعة والمُنافقين. كما ثبت ذلك عند مسلم من حديث على وأبي هريرة وابن عباس، قالوا: لو كانت خُطبته وصلاته بعد الزوال، ما انصرف منها إلا وقد صار للحِيطان ظِلٌّ يستظلّ به . وأجيب بعدم التسليم بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخطب دائمًا بسورة “ق أو تبارك” وإن كان قد تكرّر منه، لكن الغالب أنه كان ينتهي من الصّلاة مبكرًا لا يشتدُّ الحرُّ على المُصَلِّين وهم عائدون إلى بيوتِهم.
(و) وعن عبد الله بن سيدان السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاتُه قبل نصف النهار، ثم شهِدتها مع عمر، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهِدتها مع عثمان فكانت صلاتُه وخُطبته إلى أن أقول: زال النّهار، فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا أنكرَه، رواه الدارقطني وأحمد في رواية ابنه عبد الله، وأجيب بأن ابن سيدان غير معروف العدالة على الرغم من أنه تابعي كبير، قال ابن عدي عنه: شِبْه المجهول، وقال البخاري: لا يُتابَع على حديثه.وحكى في الميزان عن بعض العلماء أنه قال: هو مجهول لا حجة فيه. على أنه لو سلم بصحة الرواية ما معنى أن خطبة عثمان وصلاته استمرّتا حتى زوال النهر، هل تعدى بهما الوقت حتى دخل وقت العصر وغابت الشمس أو كادت؟ إنّ الكلام فيه مبالغة ظاهرة، فينبغي أن يُحمل التبكير على أنه في أول وقتها وهو الزوال، والتأخير على أنه قُبيل دخول وقت العصر.
(ز) روى عن ابن مسعود أنه صلّى الجمعة ضُحًى وقال: خَشِيتُ عليكم الحرّ، كما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن سلمة، ورد بأن شعبة وغيره قالوا: إن عبد الله هذا وإن كان صدوقًا إلا أنّه تغيّر لما كَبِرَ كما روى عن معاوية أنه صلّى الجمعة أيضا ضُحًى، كما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق سعيد بن سويد، ورد بأن سعيدًا هذا ذكره ابن عدي في الضعفاء. ومثل ذلك قيل فيما روى عن جابر وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقّاص، فإن الرّوايات عنهم لا تعارِض ما هو أقوى منها.
(ح) قال الحنابلة: إن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عن يوم الجمعة “إن هذا يومٌ جعله الله عيدًا للمسلمين” فلمّا سمّاه عيدًا جازت الصلاة فيه وقت صلاة العيد “الفطر والأضحى” ورُدَّ بأنّ التّسمية لا تقتضي التشبيهَ في كل شيء، ألا ترى أن يوم العيد يحرُم صومه، أما يوم الجمعة فلا، وبخاصّة إذا سُبِق بصيام يوم الخميس، أو أُتبِعَ بصيام يوم السبت؟
هذه هي أدلة الجمهور وأدلة أحمد، وقد رأيت أن أدلة الجمهور أقوى، وإنْ كان الشوكاني قال في الجمع بين الرأيين: إن أدلة الجمهور لا تنفي جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، أي ليس فيها أسلوب الحصر الذي يمنع ما عداه، وأنا أميل إلى أن وقت صلاة الجمعة هو وقت صلاة الظُّهر، وإن كان من المُمكن صلاتُها قبل الزوال بوقت قصير عند الضرورة، كالحرِّ الشديد ونحوه، والضّرورة تقدّر بقدْرِها. ولكلِّ بلد ظروفه، ولكل زمن ما يُناسِبه، والله أعلم “راجع فتح الباري لابن حجر ج 3 ص 37 ونيل الأوطار للشوكاني ج 3 ص 330 والمغني لابن قدامة”.