قال تعالى ( ومَا أرْسلْنا مِنْ رسولٍ إلا بلِسانِ قَومِه لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) [ سورة إبراهيم : 4 ] وقال ( وإنَّهُ لتنزيلُ رَبِّ العالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمينُ عَلَى قلبِكَ لتكونَ مِنَ المُنذِرينَ بِلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ ) [ سورة الشعراء : 192 ـ 195 ] وقال ( إنّا أنزلناه قُرْآنًا عربيًّا لعلَّكم تَعقِلونَ ) [ سورة يوسف : 2 ] .
تدل هذه الآيات وغيرها على أن القرآن الكريم نزل باللغة العربية لأنها؛ لسان القوم الذين أُرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك ليستطيعَ أن يبلغ وليستطيعوا أن يفهموا ويتدبّروا .
ومعروف أن اللغات تتلاقَح في بعض الألفاظ، أي يأخذ بعضها من بعض، بحكم الاتصالات بين الأفراد والجماعات والشعوب، التي هي ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية للبشر، فما يوجد فيها من ألفاظ متّحِدة قد يكون لانتساب لغتين إلى أصل واحد أو أي لشيء آخر ، وقد يكون نقلاً من لغة إلى لغة، وإذا نقل لفظ واستعمله الناقلون مدة طويلة صار من لغتهم.
فإذا كان في القرآن الكريم ولغة العرب ألفاظ أصلها غير عربي مثل أباريق وأرائك وإستبرق فقد استعملها العرب وصارت مألوفة لهم ، وأجروا عليها قواعد لغتهم في الإعراب والاشتقاق والإفراد والتثنية والجمع وغيرها.
جاء في تفسير القرطبي ” ج1 ص68 ” أنه لا خلاف بين الأئمة في أنه ليس في القرآن كلام مركّب على أساليب غير العرب ، وأن فيه أسماءً أعلامًا لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط .
واختلفوا : هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب ؟ فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه، وأن القرآن عربي صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التي تُنْسَب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلَّمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم .
وذهب بعضهم إلى وجودها فيه، وأن تلك الألفاظ لقلّتِها لا تُخرِج القرآن عن كونه عربيًّا مبينًا، ولا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ عن كونه متكلِّما بلسان قومه، فالمِشكاة هي الكورة، ونشأ معناها: قام من الليل، ومنه ( إنَّ ناشِئة اللَّيْلِ ) ( يؤتِكم كِفْلَينِ )أي ضِعْفَين ، ( فَرَّتْ مِنْ قَسْورَةٍ ) أي الأسد ، كله بلسان الحبشة. والغَسّاق أي البارد المنتن هو بلسان الترك، والقِسطاس أي الميزان هو بلغة الروم، والسِّجِّيل أي الحجارة والطين هي بلسان الفرس، والطُّور أي الجبل، واليَمّ أي البحر هما بالسريانيّة، والتَّنُّور أي وجه الأرض هو بالعجميّة.
قال ابن عطية: فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجميّة، لكن استعملتها العرب وعرَّبتها فهي عربية بهذا الوجه.
وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بِتِجارات وبرحلتي قريش، وسفر بعض الأشخاص إلى بلاد أخرى، فعَلّقت العرب بهذا كله ألفاظًا أعجميّة غيّرت بعضَها بالنّقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العُجمة واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مَجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان. على هذا الحد نزل بها القرآن. فإن جهِلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس معنى ” فاطِر ” إلى غير ذلك .
قال ابن عطية : وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة فذلك بعيد، بل إحداها أصل والأخرى فرع من الأكثر، لأنَّا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلاً شاذًّا .
قال غيره : والأول أصح ـ أي أن القرآن فيه كلمات أجنبيّة صارت بعد ذلك عربية ـ وقوله : هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم ليس بأولى من العكس، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطب بها أولاً ، فإن كان الأول فهي من كلامهم؛ إذ لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عُبيدة، فإن قيل: ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه، قلنا: ومَن سلَّم لكم أنّكم حصرتُم أوزانَهم حتى تُخرجوا هذه منها ؟ فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب، ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النَّحْويّة .
وأما إن لم تكن العرب تخاطَبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطِبَهم الله بما لا يَعرِفون: وحينئذٍ لا يكون القرآن عربيًّا مبينًا، ولا يكون الرسول مخاطبًا لقومه بلسانهم. والله أعلم .