المدار في الخيرية على الإخلاص في العمل، فالسرُّ خيْر من الجهر إن خاف المُتصدِّق على نفْسه الرِّياء، وعليه يُحمل الحديث في السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ” ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلمَ شِمَالُه ما تُنفِق يَمينُه”. والجهْر خيْر من السر إذا قصد المتصدِّق أن يَقتدى به غيرُه، وأن يكون هناك تنافُسٌ في الخَيْر، كما حدث في التَّصدُّق لتمْويل غزْوة العُسرة، حيث كانت المنافسة شديدة، ولم يَعِب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحدًا تصدَّق بأكثر ممَّا تصدَّق به غيره ليكون أحسنَ منه، فقد ظنَّ بعضهم أنه تصدَّق بما لم يستطع غيره أن يتصدَّق به ففُوجِئ بمَن كان أحسنَ منْه، وهو أبو بكر الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ الذي دفَع كلَّ ما عنده من نقود وأبْقى لعِياله الله ورسوله، وكما حدث تنافسُ الصَّحابة لتقديم تموينٍ للفُقراء من مُضَر، وقال فيهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه مسلم ” مَن سنَّ سُنة حسنة فله أجرُها وأجْر مَن عَمِل بها إلى يوم القيامة.

قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)(سورة البقرة:271)، وجاء في تفسير القرطبي لهذه الآية بعد ذكْر الأقوال في معناها قوله: والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المُعطِي لها والمُعطَي إيَّاها والناسِ الشاهدِين لها.

أما المعطِي فله فيها فائدة إظهار السُّنة وثواب القدوة، وذلك لمن قَوِيَتْ حاله وحَسُنَتْ نيَّته وأمن على نفسه الرِّياء، وأما من ضعُف عن هذه المَرْتبة فالسِّرُّ له أفضل.

وأما المعطَي إياها فإن السر له أسلم منَ احتقار الناس له، أو نِسْبَته إلَى أنَّه أخَذَها مع الغِنَى عنها وتَرَك التعفف.
وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطِي لها بالرياء، وعلى الآخذ لها بالاستغْناء، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة، لكنَّ هذا اليوم قليل.

ثم قال القرطبي ناقلًا عن الكِيَا الطبري: إن في هذه الآية دلالةً على قول إخفاء الصدقات مُطلقًا أوْلى، وأنَّها حقُّ الفقير، وأنه يجوز لربِّ المال تفريقُها بنفسه على ما هو أحد قَوْلَيِ الشافعي، وعلى القول الآخر ذكَروا أنَّ المراد بالصدقات هَهُنا التَّطوع دون الفرْض الذي إظهاره أوْلى، لِئَلَّا تَلْحقُه تُهْمة؛ لأجل ذلك قيل: صلاة النفل فرادى أفضل، والجماعة في الفرض أبعد عن التهمة.

وذكر آراء أخرى وهي كلُّها اجتهادية، والأولى – كما سبق – أن يُراعَى ما فيه كثْرة النفع فيَعمل به، وما فيه قلَّتُه فلا يَعمل به، والأنْظار في ذلك مختلفة، ومهما يكن من شيء فلا بد في كل صدقة مفروضة أو غير مفروضة من الإخلاص لله وعدم الرياء، فالرياء شرك خَفِيٌّ.