البقر نوع من الأنعام التي امتنَّ الله بها على عباده، وناط بها كثيرًا من المنافع للبشر، فهي تتخذ للدر والنسل، وللحرث والسقي، كما يُنتفع بلحومها وجلودها، إلى غير ذلك من الفوائد، التي تختلف باختلاف البلدان والأحوال.
ويبدو أن عظم المنفعة في هذا الحيوان هو الذي جعل بعض البشر – كالمصريين قديمًا، والهندوس إلى اليوم – يتخذون من هذه البهيمة المستأنسة الذلول إلهًا يُقدَّس ويُعبد، وتُقدَّم له القرابين ‍‍!!
والجواميس صنف من البقر بالإجماع – كما نقله ابن المنذر – فيُضَم بعضها إلى بعض (انظر المغني: 594/2).

الأدلة على وجوب زكاة البقر:
والزكاة في البقر واجبة بالسنة والإجماع.
أما السُنَّة: فما رواه البخاري في صحيحه مسندًا إلى المعرور بن سويد عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال: انتهيتُ إلى النبي (هكذا في متن صحيح البخاري، وفي النسخة التي شرح عليها القسطلاني أما في النسخة التي شرح عليها ابن حجر ففيها: قال: انتهيت إليه، فجعل القول للمعرور بن سويد، والضمير لأبي ذر فكان الحديث موقوفًا مع أن الحديث ثبت رفعه عند مسلم وغيره، بل عند البخاري نفسه بهذا الإسناد، حيث أفرد قطعة منه فأخرجها في كتاب الإيمان والنذور، ولم يذكر هناك القدر الذي ذكره هنا كما ذكر في الفتح: 66/4 – 67 – ط مصطفى الحلبي) – صلى الله عليه وسلم – قال: “والذي نفسي بيده – أو والذي لا إله غيره – أو كما حلف – ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أُتِيَ بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها، رُدَّت عليه أولاها حتى يُقضَى بين الناس”.
قال الإمام البخاري: ورواه بكير عن أبي صالح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – والحق – الذي جاء في الحديث – وأنذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من لا يؤديه بالعذاب الشديد يوم القيامة، يشمل – أول ما يشمل – الزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، كما جاء في الصحيحين عن أبي بكر في قتال مانعي الزكاة، وأقره عمر والصحابة على قوله وقد جاء تعيين هذا الحق بأنه “الزكاة” في رواية مسلم لهذا الحديث، حيث قال: “لا يؤدي زكاتها” مكان: “لا يؤدي حقها” فدل على أن المراد بالحق هنا هو الزكاة.
أما الإجماع: فقد ثبت – بيقين لا شك فيه – اتفاق كافة المسلمين على وجوب الزكاة في البقر لم يخالف في ذلك أحد في عصر من العصور انظر المغني: 591/2، والأموال ص 379 وإنما وقع الخلاف في تحديد النصاب، ومقدار الواجب، كما سيأتي.

نصاب البقر وما يجب فيها:
وقد عرفنا أن الإسلام لم يوجب الزكاة في كل مال قلَّ أو كثر، بل أعفى المال القليل من الزكاة، ووضع لأكثر الأموال حدًا معيَّنًا إذا بلغته وجب فيها الزكاة، وهو ما يُعرف بالنصاب وهو الذي حددته الأحاديث الثابتة عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وخلفائه في زكاة الإبل بخمس، وفي الغنم بأربعين.
فما هو إذن نصاب البقر الذي يُعفى ما دونه من وجوب الزكاة فيه؟ إن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يرد عنه نص صحيح يبيَّن نصاب البقر، كما بيَّن نصاب الإبل، ومقادير الواجب فيها بالتفصيل.
وربما كان ذلك راجعًا إلى قلة البقر في أرض الحجاز وما حولها في ذلك العصر، فلم يبيِّن الرسول حكمها في كتبه المشهورة في الصدقات، كما بيَّن غيرها.
وربما يكون تركها اعتمادًا على ما بيَّنه في شأن الإبل، وهما في حكم الشرع متماثلان، ومهما يكن السبب فقد اختلف الفقهاء في نصاب البقر وما يجب فيها، كما سيأتي.
القول المشهور “النصاب ثلاثون”:
فالقول المشهور الذي أخذت به المذاهب الأربعة: أن النصاب ثلاثون، وليس فيما دون ثلاثين زكاة، فإذا بلغت ثلاثين، ففيها تبيع: جذع أو جذعة (ما له سنة) وإذا بلغ عدد البقر أربعين، ففيها مسنة (ما له سنتان) وليس فيها شيء إلى تسع وخمسين، فإذا بلغت ستين، ففيها تبيعان، وليس فيما بعد الستين شئ حتى تبلغ سبعين، ففيها مسنة وتبيع، وفى الثمانين : مسنتان، وفى التسعين : ثلاثة أتبعة، وفى مائة : مسنة وتبيعان وفي مائة وعشر: مسنتان وتبيع، وفي مائة وعشرين ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة.
وحُجَّة هذا القول ما روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن مسروق عن معاذ ابن جبل قال: “بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر: تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين : مسنة”، والتبيع: ما تم له سنة وطعن في الثانية، سمي بذلك لأنه يتبع أمه والمسنة ما لها سنتان وطعنت في الثالثة، سميت بذلك لأنها أطلعت أسنانها، ولا فرض في البقر غيرهما (انظر المغني مع الشرح: 468/2).
والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال ابن عبد البر: إسناده متصل صحيح ثابت، وكذلك قال ابن بطال، وقال ابن حجر في “الفتح”: وفي الحكم بصحته نظر؛ لأن مسروقًا لم يلق معاذًا، وإنما حسنه الترمذي لشواهده، ففي الموطأ عن طريق طاووس عن معاذ نحوه، وطاووس عن معاذ منقطع أيضًا (قال الشافعي: طاووس عالم بأمر معاذ وإن كان لم يلقه، لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذًا وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافًا وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذًا إلا أنه يماني، وسيرة معاذ بينهم مشهورة انظر مرعاة المفاتيح: 71/3) وفي الباب عن علي عند أبي داود (انظر الفتح: 65/4-66 ط الحلبي، و”نيل الأوطار”: 132/4 – ط العثمانية، وانظر نصب الراية: 346/2 وما بعدها وللحديث شواهد أخرى – غير حديث علي – منها عن ابن مسعود وابن عباس وأنس، ومنها حديث عمرو بن حزم الطويل انظر سنن البيهقي: 98/4 – 99، ومرعاة المفاتيح: 71/3).
وقال ابن القطان في رواية مسروق عن معاذ: هو على الاحتمال، وينبغ أن يحكم لحديثه بالاتصال على رأي الجمهور (لأن جمهور المحدثين لا يشترطون العلم بلقاء الراوي لمن روى عنه، إنما يكتفون بالمعاصرة وإمكان اللقاء انظر: نيل الأوطار ومرعاة المفاتيح السابقين أما البخاري فهو كشيخه المديني – يشترط العلم باللقاء ولو مرة واحدة ولهذا لم يخرج في صحيحه في باب “زكاة البقر” شيئًا مما يتعلق بنصابها، لكون ذلك لم يقع على شرطه، كما نقل الحافظ عن الزين بن المنير – “الفتح: 65/4 – ط الحلبي”).
وقد كان ابن حزم ضعَّف حديث معاذ هذا بأن مسروقًا لم يلق معاذًا، ثم استدرك على نفسه فقال: وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذًا، وشهد حكمه، وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك – ولأنه عن عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نقلاً عن الكافة عن معاذ بلا شك، فوجب القول به (المحلى: 16/6).
ونقل الحافظ ابن حجر في “التلخيص” عن حافظ المغرب ابن عبد البر أنه قال في كتابه “الاستذكار”: “لا خلاف بين العلماء: أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه فيها” (نيل الأوطار، المرجع السابق).
ومما يؤيد حديث معاذ ما جاء في كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى عمرو بن حزم: “وفي كل ثلاثين باقورة تبيع: جذع أو جذعة وفي كل أربعين باقورة: بقرة” (سنن البيهقي: 89/4 – 90، ومجمع الزوائد: 72/3) والباقورة: البقرة.
وقد حسن بعض الحفَّاظ هذا الحديث
ولكن حديث معاذ – ومثله حديث عمرو بن حزم – لا نص فيهما على أن الثلاثين هو أدنى النصاب، ولا يمنع أحد الحديثين: أخذ الزكاة عما دون الثلاثين.
أما دعوى الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر في نصاب البقر، فمردودة، لوجود خلاف ابن المسيب والزهري وأبي قلابة والطبري وغيرهم، كما سيأتي.
ونقل ابن حجر عن الحافظ عبد الحق أنه قال: ليس في زكاة البقر حديث متفق على صحته يعني في النُصب (نيل الأوطار المرجع المذكور، وانظر التلخيص لابن حجر ص 174).
وفي حديث معاذ دليل على أن البقر إذا زادت على الأربعين فليس فيها شيء حتى تكمل ستين، ويدل على ذلك ما روي عن معاذ أنهم جاءوه بوقص البقر فلم يأخذه، كما في الموطأ وغيره وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة ,أبي يوسف ومحمد وجمهور العلماء أما أبو حنيفة، فالرواية المشهورة عنه: ما زاد على الأربعين فبحسابه، في كل بقرة ربع عشر مسنة.
وروى الحسن عنه: أن لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين، فيكون فيها مسنة وربع.
وفي رواية عنه مثل قول صاحبيه والجمهور واختارها بعض الحنفية (انظر: المرعاة: 70/3)

رأي الطبري “النصاب خمسون”:
ويرى الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري: أن النصاب خمسون وقد احتج لذلك فقال: صح الإجماع المتيقن المقطوع به، الذي لا اختلاف فيه، أن في كل خمسين بقرة: بقرة فوجب الأخذ بهذا، وما دون ذلك مختلف فيه، ولا نص في إيجابه (ذكر ذلك الحافظ في “التلخيص” ص 174).
وهذا الرأي هو ما كان قد ذهب إليه ابن حزم في “المحلى” مستندًا إلى منطق الطبري نفسه: أن كل ما اختلف فيه ولا نص في إيجابه لم يجز القول به، لأن فيه أخذ مال مسلم وإيجاب شريعة بزكاة مفروضة بغير يقين، من نص صحيح عن الله تعالى أو رسوله (المحلى: 16/6).
وأيَّد ابن حزم هذا القول بما رواه بسنده عن عمرو بن دينار قال: كان عمال ابن الزبير وابن عوف (هو طلحة بن عبد الله بن عوف – ابن أخي عبد الرحمن بن عوف – ومن كبار التابعين جدًا بالمدينة كما قال ابن حزم – المصدر نفسه) يأخذون من كل خمسين بقرة: بقرة، ومن كل مائة: بقرتين، فإذا كثرت ففي كل خمسين بقرة: بقرة (المرجع نفسه ص 7 – 8)، وقد عمل هؤلاء ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكروه.
ويرد على هذا القول أمران: الأول من جهة الخبر، والثاني من جهة النظر.
أما الأول فقد جاء حديث عمرو بن حزم الطويل في الصدقات والديات وغيرها: “وفي كل ثلاثين باقورة تبيع: جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة”، والباقورة: البقرة.
وقد حسَّن هذا الحديث جماعة من الأئمة، وبه تعقب الطبري الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في كتابه “الإمام” (كما في “التلخيص” السابق وانظر: نيل الأوطار ج4).
وكذلك حديث معاذ (الذي أوجب الأخذ من الثلاثين والأربعين) وقد صححه جماعة من الأئمة وإليه رجع ابن حزم (كما في ختام بحثه في زكاة البقر – المحلى: 16/6).
وأما من جهة النظر فيبعد – عند من يقول بتعليل الأحكام ودورانها على مصالح الخلق – أن يوجب الشرع الحكيم العادل في خمس من الإبل، وفي أربعين من الغنم؛ زكاة، ويسقطها عما دون خمسين من البقر، وهي – إن لم تكن كالإبل – فهي حتمًا أعظم وأنفع وأنفس من الغنم.

رأي ابن المسيب والزهري:
وذهب الإمامان: سعيد بن المسيب، ومحمد بن شهاب الزهري وأبو قلابة وغيرهم: أن نصاب البقر هو نصاب الإبل وأنه يؤخذ في زكاة البقر ما يؤخذ من الإبل دون اعتبار للأسنان التي اشترطت في الإبل من بنت مخاض وبنت لبون وحقة وجذعة … وروى هذا عن كتاب عمر بن الخطاب في الزكاة، وعن جابر بن عبد الله – وشيوخ أدوا الصدقات على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وروى أبو عبيد عن محمد بن عبد الرحمن: أن في كتاب عمر بن الخطاب (في الزكاة): أن البقر يؤخذ منها مثل ما يؤخذ من الإبل.
قال: وقد سئُل عنها غيرهم، فقالوا: “فيها ما في الإبل” (الأموال ص 379، والمحلى: 2/6).
وروى ابن حزم بسنده عن الزهري وقتادة كلاهما عن جاب بن عبد الله الأنصاري قال: في كل خمس من البقر: شاة، وفي عشر: شاتان، وفي خمس عشرة: ثلاث شياه، وفي عشرين: أربع شياه قال الزهري: فرائض البقر مثل فرائض الإبل، غير الأسنان فيها: فإذا كانت البقر خمسًا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت على خمس وسبعين ففيها بقرتان إلى مائة وعشرين، فإذا زادت على مائة وعشرين، ففي كل أربعين بقرة قال الزهري: وبلغنا أن قولهم: “في كل ثلاثين: تبيع، وفي كل أربعين: بقرة” أن ذلك كان تخفيفًا لأهل اليمن، ثم كان بعد ذلك لا يروى” (المحلى لابن حزم: 3/6).
وروى أيضًا عن عكرمة بن خالد قال: استعملتُ – أي وليتُ – على صدقات “عك” فلقيتُ أشياخًا ممن صُدّق (أخذت منه الصدقة) على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فاختلفوا علي: فمنهم من قال: اجعلها مثل صدقة الإبل، ومنهم من قال: في ثلاثين تبيع، ومنهم من قال: في أربعين: بقرة مسنة (المرجع السابق والصفحة نفسها).
ونقل ابن حزم أيضًا بسنده عن ابن المسيب وأبي قلابة وآخر مثل ما نقل عن الزهري ونقل عن عمر بن عبد الرحمن بن خلدة الأنصاري: أن صدقة البقرة صدقة الإبل، غير أنه لا أسنان فيها (نفس المرجع والصفحة).
أدلة هذا القول:.
احتج أصحاب هذا القول بما رواه أبو عبيد بإسناده إلى محمد بن عبد الرحمن قال: إن في كتاب صدقة النبي – صلى الله عليه وسلم -، وفي كتاب عمر بن الخطاب: “أن البقر يؤخذ منها مثل ما يؤخذ من الإبل” (الأموال ص 379، والمحلى: 4/6).
وما رواه عبد الرزَّاق عن معمر، قال: أعطاني سماك بن الفضل كتابًا من النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى مالك بن كُفْلانِس المصعبيين (كذا في المحلى وانظر مصنف عبد الرزاق الأثر (6855) وتعليق المحقق عليه) فقرأته فإذا فيه: ” وفي البقر مثل الإبل” (المحلى – المرجع نفسه).
وأكدوا ذلك بما ذكره الزهري من أن هذا هو آخر الأمر من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأن الأمر الأول بأخذ تبيع من كل ثلاثين بقرة كان تخفيفًا لأهل اليمن.
وهو خبر مرسل يؤكده الحديث السابق، وأقوال الصحابة وقد قال ابن حزم: لو قُبِل مرسل أحد لكان الزهري أحق بذلك، لعلمه بالحديث، ولأنه قد أدرك طائفة من الصحابة – رضي الله عنهم – (المحلى: 9/6).
وأيدوا ذلك بعموم الحديث الذي ذكرناه من قبل: “ما من صاحب بقر لا يؤدي حقها إلا بُطِحَ لها يوم القيامة” الحديث قالوا: فهذا عموم لكل بقر؛ إلا ما خصَّه نص أو إجماع وقالوا: إن احتجوا بالخبر الذي فيه: “في كل ثلاثين: تبيع وفي كل أربعين مسنة” فنعم، نحن نقول بهذا، وليس في هذا الخبر إسقاط الزكاة، عما دون ثلاثين من البقر، لا بنص ولا بدليل.
وعضدوا ذلك بقياس البقر على الإبل، قالوا : إن أكثر من خالفنا على أن البقرة تجزئ عن سبعة أشخاص، كالبدنة – الواحدة من الإبل – وإنها تعوض من البدنة وأنه لا يجزئ في الأضحية والهدي من هذه إلا ما يجزئ من تلك … فوجب قياس صدقتها على صدقتها (المحلى: 4/6).
ورد ابن حزم على هذا الرأي بأن الأحاديث المرفوعة فيه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – غير متصلة، ولا حُجَّة إلا بمتصل، قال: إلا أنه كان يلزم القائلين بالمرسل والمنقطع – من الحنفيين والمالكيين – أن يقولوا بها.
قال: وأما احتجاجهم بعموم الخبر: “ما من صاحب بقر لا يؤدي زكاتها … ” وقولهم: إن هذا عموم لكل بقر … فإن هذا لازم للحنفيين والمالكيين المحتجين بإيجاب الزكاة في العروض بعموم قول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (التوبة: 103)، والمحتجين في هذا بوجوب الزكاة في العسل وسائر ما احتجوا فيه بمثل هذا، لا مخلص لهم منه أصلاً وأما نحن فلا حُجَّة علينا بهذا، لأننا – وإن كنا لا يحل عندنا مفارقة العموم إلا لنص آخر – فإنه لا يحل شرع شريعة إلا بنص صحيح … ولم يصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما أوجبوه في الخمس فصاعدًا.
وأما احتجاجهم بقياس البقر على الإبل في الزكاة، فلازم لأصحاب القياس لا افتكاك له، فلو صحَّ شيء من القياس لكان هذا منه صحيحًا وما نعلم في الحكم بين الإبل والبقر فرقًا مجمعًا عليه إلى أن قال ابن حزم: فسقط كل ما احتجوا به عنا وظهر لزومه للحنفيين والمالكيين والشافعيين (انظر المحلى: 8/6-11).
أما علماء المذاهب فقالوا في الرد على هذا الرأي: إنه قاس البقر على الإبل، والأنصبة لا تثبت بالقياس بل بالنص والتوقيف، وليس فيما ذكروا نص ولا توقيف فلا يثبت قال ابن قدامة: وقياسهم فاسد، فإن خمسًا وثلاثين من الغنم تعدل خمسًا من الإبل في الهَدْي ولا زكاة فيها كما احتجوا أيضًا بخبر معاذ (المغني مع الشرح: 468/2).
قول آخر:.
وذكر ابن رشد قولاً آخر – لم يعيَّن قائله، كما لم يذكر دليله -: أن في كل عشر من البقر: شاة إلى ثلاثين ففيها: تبيع (بداية المجتهد: 223/1 – ط الحلبي).
ووجدت ابن أبي شيبة في “المصنف” حكي هذا القول بسنده إلى شهر بن حوشب قال: في كل عشر من البقر: شاة، وفي كل عشرين: شاتان، وفي كل ثلاثين: تبيع (المصنف: 221/3 – ط حيدر آباد الدكن).
ومعنى هذا القول : أن نصاب البقر عشر لا خمس كالقول السابق ولم ينقل ابن أبى شيبة لهذا القول دليلاَ أيضاَ.
والذي خطر لي أنه يمكن الاستدلال لهذا القول بما ورد من الأحاديث في تقدير الدية، أنها مائة من الإبل، أو مائتان من البقر (رواه أبو داود في سننه – كتاب الديات، باب “الدية كم هي؟” من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة وروى أبو داود أيضًا من حديث عطاء بن أبي رباح: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قضى في الدية على أهل الإبل: مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة الحديث، وهو مرسل، وفي رواية أخرى: أن عطاء ذكره عن جابر بن عبد الله قال: فرض رسول الله … إلخ).
وقد روى ذلك موقوفًا على عمر، ومرفوعًا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ومقتضى هذا أن الواحدة من الإبل تساوي بقرتين، فإذا كان نصاب الإبل خمسًا كان نصاب البقر عشرًا وإذا كان في كل خمس من الإبل شاة؛ كان في كل عشر من البقر شاة.