لا يخفى على أحد ما للقرآن العظيم من مكانة عند المسلمين، فهو كتاب ربهم وشرعه ودستوره الذي ارتضاه للناس إلى يوم الدين، وهو معجزة نبيهم التي تحدى بِها العرب والعجم.
وقد لقي القرآن من المسلمين على مر العصور أبلغ العناية، وحظي بأقصى درجات الحرص والحيطة، والحيطة، فكان أهل كل عصر يجتهدون في المحافظة عليه بشتى الوسائل التي تتاح لهم .و من حفظ الله لكتابه أن سخر له من يحمله و يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ، و من الأشياء التى امتن الله بها على أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه أنزل القرآن الكريم على سبعة أحرف .

أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف:

لقد ثبت أن القرآن نزل على سبعة أحرف ،كما تشير إلى ذلك نصوص السنة النبوية المطهرة :
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده، ويزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف”.
زاد مسلم: “قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة في الأمر الذي يكون واحدًا، لا يختلف في حلال ولا حرام”.
وروى البخاري ومسلم أيضًا، واللفظ للبخاري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت هشام بن حكيم، يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرت حتى سلم، ثم لبيته بردائه أو بردائي فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له: كذبت، فوالله إن رسول الله أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فقرأ هذه القراءة، التي سمعته يقرؤها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منها .

وروى مسلم بسنده عن أبي بن كعب قال: عن أبي بن كعب؛ قال:
كنت في المسجد. فدخل رجل يصلي. فقرأ قراءة أنكرتها عليه. ثم دخل آخر. فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه. فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه. ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ. فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما. فسقط في نفسي من التكذيب. ولا إذا كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري. ففضت عرقا. وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا. فقال لي “يا أبي! أرسل إلي: أن اقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هون على أمتي. فرد إلى الثانية: اقرأه على حرفين. فرددت إليه: أن هون على أمتي. فرد إلى الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف. فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألينها. فقلت: اللهم! اغفر لأمتي. وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم. حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم”.
وروى مسلم بسنده عن أبي كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال: اسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين.
فقال: اسأل الله معافاته ومغفرته؛ وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال اسأل الله معافاته ومغفرته؛ وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا.

من هذه الروايات تظهر لنا ملامح يجب أن نتنبه إليها ، وألا نغفل عنها :
أولها: أن القراءات كلها على اختلافها كلام الله، ولا دخل لبشر فيها، فكلها نازلة من عند الله مأخوذة بالتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلنا أن الأحاديث الماضية أفادت أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون فيما يقرءون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان المخالف في القراءة لصاحبه الذي ينتقده يقول: “أقرأنيها رسول الله”. وبهذا يظهر أن هذه القراءات مأخوذة عن طريق النقل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يسمع قراءة المعترض عليه والمعترض يقول: “هكذا أنزلت .
ثانيها: هذه الروايات تظهر لنا مدى حماس الصحابة في الدفاع عن القرآن مستبسلين في المحافظة عليه،و كيف كانوا متحمسين لذلك و كيف كانوا في منتهى التيقظ لكل من يحدث فيه حدثًا، ولو كان عن طريق الأداء واللهجات. وموقف عمر من هشام بن حكيم خير دليل على هذا .
ثالثها: أنه لا يجوز أن نجعل الاختلاف في القراءات مثارًا للمراء والجدل والشقاق، ولا مثارًا للتردد والتشكيك والتكذيب؛ ودليلنا في ذلك قول نبينا صلى الله عليه وسلم فيما سبق من الأحاديث العطرة فلا تماروا فيه فإن المراء فيه كفر”.
رابعها: لا يجوز منع أحد من القراءة بأي حرف من الأحرف السبعة النازلة ؛ ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا”.
خامسها: الخلاف الذي صورته لنا الروايات السابقة لم يكن حول تفسير المعاني ، وإنما كان دائرًا حول قراءة الألفاظ؛ ودليلنا في ذلك قول عمر رضي الله عنه : “إذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعد فكل هذه الأحاديث النبوية المطهرة تثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن القرآن نزل على سبعة أحرف.

معنى الحرف في اللغة:

يقول صاحب القاموس: الحرف من كل شيء طرفه وشفيره وحده ومن الجبل أعلاه المحدد ثم يقول: وواحد حروف التهجي والناقة الضامرة والمهزولة أو العظيمة، وسيل الماء، وأرام سود ببلاد سليم.
وعند النحاة ما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل ، و في القرآن الكريم نجد كلمة حرف مذكورة في سورة الحج في قوله تعالى: “ومن الناس من يعبد الله على حرف” أي : وجه واحد وهو أن يعبده على السراء لا على الضراء أو على شك أو على غير طمأنينة على أمره أي لا يدخل في الدين متمكنًا .

معنى نزول القرآن على سبعة أحرف:

ونزل القرآن على سبعة أحرف ليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه وإن جاء على سبعة أو عشرة أو أكثر، ولكن المعنى أن هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن”.
وقد اختلف العلماء في المراد من الأحرف السبعة في الأحاديث المذكورة اختلافًا كبيرًا، حتى قال السيوطي: اختُلِفَ في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً .

وفي معنى سبعة أحرف أقوال منها ما يقوله الزركشى من أنها سبع لغات لسبع قبائل من العرب. أي نزل القرآن بعضه بلغة قريش، وبعضه بلغه هذيل، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة أزد وربيعه، وبعضه بلغة هوازن وسعد بن بكر وهكذا .

وأنسب المعاني في المراد بالحرف في قوله صلى الله عليه وسلم: “أنزل القرآن على سبعة أحرف” أنه الوجه من أوجه القراءة وبيان هذه الأحرف قد بينها العلماء في ما يلي:
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث، ومن ذلك “والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون”. فقد قرئ (لأماناتهم).
الثاني: اختلاف وجوه الأفعال من ماض ومضارع وأمر، ومن ذلك قوله تعالى: “فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا” فقد قرئ “ربنا بعِّد”.
الثالث: اختلاف وجوه الإعراب، ومن ذلك قوله تعالى: “ولا يضار كاتب ولا شهيد”، فقد قرئت بضم الراء في يضار وبفتحها.
الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة ومن ذلك قوله تعالى: “وما خلق الذكر والأنثى”. فقد قرئ والذكر والأنثى.
الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير ، ومن ذلك قوله تعالى: “وجاءت سكرة الموت بالحق” فقد قرئ وجاءت سكرة الحق بالموت.
السادس: الاختلاف بالإبدال ومن ذلك قوله تعالى: “وانظر إلى العظام كيف ننشزها”. فقد قرئ (ننشرها).
السابع: اختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم، والإظهار والإدغام”.
ومن ذلك قوله تعالى: “بلى قادرين” فقد قرئ أيضًا بالفتح والإمالة في لفظ بلى.
وهذا الوجه الذي ذكرناه هو ما اخترناه من أربعين قولاً ذكرها السيوطي وغيره.
وهو رأي الرازي وابن قتيبة والقاضي ابن الطيب وابن الجزري لا يختلف رأيهم عنه إلا في أنهم جعلوا الستة الأولى مما ذكرت سبعة ، وتركوا الوجه الأخير.
وهذه الأحرف انتقلت إلينا عن طريق الصحابة رضوان الله عليهم فقد اشتهر بالإقراء منهم جماعة مثل : أبي وعلي، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري .

“هذا الكلام ملخص من كتب علوم القرآن مثل : تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ، الاتقان في علوم القرآن للسيوطي ، والبرهان في علوم القرآن للزركشي ، مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ عبد العظيم الزرقاني .