الكي من الأدوية الخاصة التي قد يحتاج إليها في بعض الأحيان ،ولكنها ليست كدواء دائم ،وقد كرهه الرسول صلى الله عليه وسلم ،ولكنه لم ينه عنه ،والكي كعلاج يرجع أخذه ووصفه إلى الثقات من الأطباء ،على أن يكون في آخر الأدوية .

يقول الدكتور محمد بكر إسماعيل الأستاذ بجامعة الأزهر:
أحيانًا يَجد القارئ في كُتب السُّنَّة أحاديثَ تبدو مُتعارضةً، فيَقع القارئُ المبتدئ في حَيرة مِن أمره، فيَتردَّد كثيرًا في حُكم المسألة التي يُريد أن يعرفَ الحُكم فيها، فإن أسعَدَه الحظُّ سأل أهلَ العلم وأربابَ الاجتهاد في الفقه فأجابوه بما يَشفي ويَكفي، لهذا أحال الله ـ عز وجل ـ مَن لا خِبرةَ له بشيء يُريد أن يَعرف حُكم الشرع فيه إلى أهل الذكْر وهم أهل العلْم، فقال في سورتَي النحل والأنبياء: (فاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتمْ لا تَعلَمُونَ) والعلْم أبوابٌ مُقفلةٌ مَفاتيحُها الأسئلة.

يجب أن يعلم كل مسلم ما ينبغي أن يعلمه عندما يبدو له التعارُض بين الأحاديث النبوية، فنقول:
1 ـ يَجب عليه أوَّلًا أن يبحثَ بحثًا دقيقًا عن صحة هذه الأحاديث، فإنْ وَجدتَ بعضها صحيحًا وبعضها ضعيفًا فيقدِّمِ الصحيحَ على الضعيف، ويأخُذِ الحكمَ منه ويضربْ صفْحًا عن الضعيف أو عمَّا دُونه في الصحة، فالصحيح يُقدَّم على الضعيف، والأصحُّ يُقدم على الصحيح، وهذا نوع مِن الترجيح يَرجع إليه العلماء عند التعارُض بين الأحاديث.

2 ـ إنْ وَجَد الأحاديثَ في درجةٍ واحدة من الصحة وَجَبَ عليه أن يخصِّص كلَّ حديثٍ بحالة من الحالات أو بوقتٍ من الأوقات، بحسَب ما يَتيسَّر له، ما لم يعرفْ أن بعضها مَنسوخ وبعضها ناسِخ، فإنْ عرَف الناسِخ من المَنسوخ تَلاشَى التعارُض وارتفَعَ حُكم المنسوخ بالناسِخ.

3 ـ إنْ وجد الأحاديث كلَّها صحيحة ولم يدْرِ الناسِخ مِن المَنسوخ، ولم يستطع الجمْعَ بينها فيتوقَّفْ عن استنباط الحُكم منها، ويبذُلْ جهده في التحرِّي والبحث، ويسألْ أهل العلْم، ويستَعِنْ بالله على معرفة الحُكم منها جميعًا على التساوي ما أمكن، مع أننا نحبُّ أن نطمئنَ إلى أنه لا يُوجد في كتاب الله تعالى ولا في سُنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعارُض بحَمد الله تعالى.

هذه مُقدمة مُوجزة نرجو أن تكون نافعةً لكل مسلم في جميع المسائل التي يُخيَّل إليه أن الأحاديث فيها متعارِضة.

وردتْ أحاديثُ تُفيد أن الكيَّ دواءٌ مِن الأدوية ولكنه آخر الأدوية، بمعنى أنه لا يَلجأ إليه إلا مَن كان مُضطرًّا لم يَجد سواه نافعًا له، فقد ورد في صحيح البخاريّ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعتُ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “إنْ كان في شيء من أدويتكم” أو: “يكون في شيء من أدويتكم خير ففي شَرْطَةِ مِحْجَم أو شَرْبَة عَسَل أو لَذْعَةٍ بنار تُوَافِقُ الداءَ، وما أحب أنْ أكْتَوِيَ.

فقوله: “توافق الداءَ” يَمنع استعمالَ الكَيِّ إن وُجِدَ ما يَسُدُّ مَسَدَّه ويُغْني عنه.
وقوله: “وما أحب أن أكتويَ” يدل على كراهته له لا على أنه مكروه في ذاته، فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: رُمِي سعد بن معاذ في أَكْحَلِه فحَسَمَه رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده بمِشْقَص، ثم وَرِمَتْ فحَسَمَه الثانية “أي قطع الدم الجاريَ من العِرْق بالكيّ” بسهم كان بيده. والأكْحَل: عِرْقٌ في وسط الساعد. وجاء في صحيح مسلم أيضًا أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى أُبَيّ بن كعب طبيبًا، فقطع منه عِرْقًا، ثم كواه عليه.

ووردت أحاديثُ تَنهَى عن الكيّ، منها ما رواه البخاريّ في صحيحه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: “الشفاء في ثلاثة: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نار، وأنْهَى أمتي عن الكيّ”. قال البخاريّ: رَفَعَ الحديثَ. أي نَسَبَه ابن عباس إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدليل قوله: “وأنهَى أمتي عن الكيّ”. ومنها ما رواه أحمد وأبو داود والترمذيّ عن عِمْران بن حُصَين رضي الله عنه قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الكيّ فاكتوينا، فما أفْلَحْنا ولا أنْجَحْنا.

والجمع بين هذه الأحاديث يمكن بأن نقول: الكيّ جائز للضرورة عند عدم وجود البديل، بشرط أن يوصيَ بذلك طبيب مسلم حاذق في الطب.

ويَحْرُم على مَن كان لِدائه دواءٌ آخر يُغْني عن الكيّ.

ويُكْرَه إذا لم تكن بالشخص عِلَّة تُحتّم عليه اللجوء إليه؛ بأن كان سليمًا معافًى فخاف أن تصيبَه علة فاكتوى قبل أن تصيبه؛ لأن هذا يُنافي التوكل، لكن إذا كانت هناك أمراض منتشرة، ورأى الأطباء أن الكيَّ يَقي منها جاز لهم أن يَكتوُوا من غير كراهة، فالوقاية خير من العلاج.

وعلى هذا يُحْمَل حديث أخرجه البخاريّ في صحيحه عن القوم الذين يدخلون الجنةَ بغير حساب، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وصفهم: “هم الذين لا يَسْتَرْقون ولا يَتَطَيَّرون ولا يَكْتَوون وعلى ربهم يتوكلون” أي هم لا يطلبون الرُّقَى كما يفعل بعض الناس من صالحيهم، ولا يتشاءمون، ولا يتكوون بالنار توكلًا على الله ـ تبارك وتعالى ـ وهؤلاء هم الخواص فلا نقيس أنفسنَا عليهم. أو أن هذا محمول على من كان سالمًا يَخْشى على نفسه المرض لوهمٍ عنده، فإن الوهم في نفسه مرض ينافي التوكل، والتوكل ثمرة من ثمرات الإيمان. والقوم من الخواصّ بدليل أنهم سيدخلون الجنة بغير حساب.

هذا، وقد كان الكيُّ في الماضي علاجًا بدائيًّا يقوم به مَن لهم خبرةٌ بطريقته المُثْلى وخبرةٌ بالأدواء التي تستحق الكيّ، فكانوا يتصرفون في علاج المرض بالمتاح لهم وعلى قدر علمهم بالطب، لكن الطب قد تطور تطورًا هائلاً، وتَقَدَّم في جميع المجالات تقدمًا مُذْهِلًا، وتطور معه بالطبع استعمال الكيّ، وصُنِعَتْ له الأجهزة الدقيقة، واسْتُخْدِمت فيه الكهرباء، ومع ذلك لا يتغير الحكم، فاستخدامه بأيّ جهاز من الأجهزة المُخْتَرَعة وبأيّة طريقة من الطرق المعروفة يكون عند عدم وجود البديل.

ويُعجبنا ما قاله النوويّ في شأن الطب والأدوية التي يستعملها الأطباء، قال ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم في 14/ 193:
“إن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى التفصيل، حتى إن المريض يكون الشيءُ دواءَه في ساعة ثم يصير داءً له في الساعة التي تليها بعارض يَعْرِض؛ من غضب يُحمي مزاجَه فيُغَيِّر علاجه، أو هواء يتغير، أو غير ذلك مما لا تُحْصَى كثرته، فإذا وُجِدَ الشفاء بشيء في حالة بالشخص لم يَلْزَم منه الشفاءُ به في سائر الأحوال وجميع الأشخاص، والأطباء مُجْمِعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء والتدبير المألوف وقوة الطباع”.