أباح الإسلام السباق بين بني البشر ،كما لم يمنعه بين الحيوانات من ذوات الحوافر ،لما في ذلك من مظاهر القوة ،ولكن لم يبح أحد من الفقهاء السباق بين البشر والحيوان ،ولا بين الحيوانات إذا كان من باب الضرر ،فإن هذا مما يتنافى مع روح الإسلام وشريعته ،وما يقوم به البعض من مصارعة الثيران ليتنافى مع تعاليم الإسلام السمحة التي تسعى إلى عدم الإضرار بالإنسان ،وتحث على الرحمة بالحيوان ،ولنا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة،والقدوة الصالحة،في تعظيم دم البشر،والعطف على البهائم العجماء ،فهي خلق من خلق الله ،فلا نعذبها،ولا نضرها،كما لانعرض أنفسنا للخطر،ولعل هذا المنهج هو المنهج الأقوم ،والسبيل الأسلم الذي يتواءم مع الفطرة البشرية النقية،فمن شذ هنا،فقد شذ عن فطرته،ولا عبرة لرأيه وفكرته .

يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر:

لا خلاف بين الفقهاء على مشروعية السباق بين الآدميِّين، في الرماية والعدو والمصارعة ونحو هذا، ومشروعيته بين الحيوانات إذا كانت من ذوات الخف أو الحافر في الجملة، وقد دل على جواز هذا وذاك أحاديث كثيرة،

منها ما رُوي عن سلمة بن الأكوع أنه قال: مر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نفر من أسلم يَنتضلون أي يَرمُون بالسهام فقال: “ارمُوا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا.

وروي عن عائشة إنها كانت مع النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سفر، فسابَقَته على الأقدام فسبقَته، قالت: فلما حمَلتُ اللحم سابَقتُه فسبَقَني، فقال: “هذه بتلك.

ورُوي عن سعيد بن جُبير أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بالبطحاء، فأتى عليه يزيد بن رُكانة، أو رُكانة بن يزيد، ومعه أعنُزٌ له، فقال له: يا محمد، هل لك أن تصارعني؟ فقال: “ما تسبقني؟” أي ما تعطيني إن سبقتُك قال: شاة من غنمي. فصارَعَه فصرَعَه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخذ شاة، قال رُكانة: هل لك في العَوْد؟ قال: “ما تسبقني؟” قال: أخرى. ذكر ذلك مرارًا، فقال: يا محمد، والله ما وضع أحد جنبي إلى الأرض، وما أنت بالذي تَصْرَعني. فأسلم رُكانة، فردَّ عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غنمه.

ورُوي عن ابن عمر أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سابَقَ بين الخيل المضمَّرة من الحَفْيَاء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمَّر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زُريق.

ورُوي عن أنس قال: كانت لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناقة تُسمَّى العَضْباء لا تُسبَق، فجاء أعرابيّ على قَعُود له فسبَقَها، فشَقّ ذلك على المسلمين، فلما رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما في وجوههم قال: “إن حقًّا على الله ألاّ يرفع شيئًا من الدنيا إلا وَضَعَه”.

وإذا كانت الشريعة الإسلايمة تبيح السباق إذا كان بين آدميِّين فقط، أو بين الدواب فقط بقيوده، إلا أنه ليس فيها ما يدل على جوازه إذا كان بين آدميّ وحيوان، أو بين اثنين من الدوابّ، بحيث يضرّ أحدُهما بالآخر ضررًا بدنيًّا، كما هو الحال في مناطحة الثيران أو الكِبَاش أو مهارشة الدِّيَكة أو تحريش الكلاب أو نحو ذلك.

وقد أجمع الفقهاء على حرمة المسابقة بين الدوابّ إذا كان السباق بينهما يتخذ شكل إضرار دابّة بأخرى على نحو ما سبق، لما رُوي عن ابن عباس أنه قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن التحريش بين البهائم.

ولأن هذا السباق إيلام للحيوان وإتعاب له بدون فائدة، بل هو مجرد عبث، وفيه تعذيب للحيوان وتعريض له للهلاك فيما لا يفيد، وهو نفس محترَمة ينبغي صونُها عما يُهلكها أو يعرّضها للتلف، وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تعذيب الحيوان، فقد رُوي عن ابن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “عُذِّبَت امرأة في هرّة أوثَقَتها، فلم تُطعِمْها ولم تَسْقِها، ولم تَدَعْها تأكل من خَشَاش الأرض”.

ورُوي عن أنس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر على قوم وهم وقوف على دوابَّ لهم ورَوَاحِلَ فقال: “اركبوها سالمةً ودعوها سالمةً، ولا تتخذوها كَرَاسيَ لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فربَّ رَكُوبةٍ خيرٌ من راكبها وأكثرُ ذكرًا لله تعالى منه”. وصح عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه مر بحمار قد وُسم في وجهه فقال: “أما بلَغَكم أني لَعَنتُ من وَسَم البهيمة في وجها أو ضرَبَها في وجهها”. كما أن هذا الحيوان له قيمة مالية، وتعريضه للهلاك على هذا النحو إضاعة للمال، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، فقد رُوي عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “إن الله عز وجل حرّم عليكم عقوق الأمهات ووَأْدَ البنات ومَنْعًا وهات، وكَرِهَ لكم ثلاثًا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”.

وإذا كانت المسابقة بين حيوان وآخر على النحو السابق محرمةً فإن المسابقة بين الإنسان والحيوان أشد حرمة؛ لعدم التكافؤ بين المتسابقَين، إذ قد ينجُم عنها الإضرارُ بالحيوان أو إهلاكه لضعف قوته عن قوة الآدميّ، فيَرِدُ فيه الحظرُ السابق في تعذيب الحيوان أو إهلاكه في غير فائدة، أو ينجُم عنه الإضرارُ بالآدمي أو إهلاكه لضعف قوته عن قوة الحيوان، فتَرِدُ فيه النصوص الناهية عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، ومنها قول الحق سبحانه: (ولا تُلقُوا بأيديكم إلى التهلكة) وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسَكم إن اللهَ كان بكم رحيمًا) والوعيدُ الشديد الوارد في حق من يقتل نفسه بأية وسيلة من الوسائل التي تؤدي إلى القتل غالبًا، فيما رواه أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: “مَن تَرَدَّى من جبل فقتَل نفسَه فهو في نار جهنم يَترَدَّى فيها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تَحَسَّى سمًّا فقتَل نفسَه به فسمُّه في يده يَتَحَسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا”.

ومصارعة الإنسان للثور هو إلقاء بالنفس إلى التهلكة، فهي محرمة لذلك، وليست من قبيل رقص الباليه كما يزعم البعض، حتى لو كان المصارع على أعلى درجات التفنن في مراوغة الثور والهروب من مهاجمته، فكثيرًا ما أعمل الثور قرنه في بطن من يصارعه أو وَطِئَه بأظلافه فأهلَكَه أو ألحَقَ به ضررًا بيِّنًا، فضلًا عما في هذه المصارعة من غرز السهام في ظهر الثور وأجزاءٍ من بدنه، وقد نهى عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه ابن عباس عنه إذ قال: “لا تَتَّخذوا شيئًا فيه الرُّوحُ غَرَضًا” وقال ابن عمر: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لَعَنَ مَن فعَل هذا. فضلًا عما في ذلك من تعذيب الحيوان لغير فائدة، ويتنافى مع ما أمر به الشارع من الرفق بالحيوان والإحسان إليه كما سبق.

وإذا كانت بالثور قوة فإن الله تعالى لم يخلُقه لغرض مصارعته وإضعاف قوته أو القضاء عليه على هذا النحو الذي يأباه الإسلام، وإنما الثور من بهيمة الأنعام التي خلقها الله تعالى مذلَّلة للإنسان لينتفع بها في الوجوه المختلفة لإعمار الأرض، إذ يقول الحق سبحانه في شأنها: (والأنعامَ خلَقَها لكم فيها دِفْءٌ ومنافعُ ومنها تأكلون. ولكم فيها جَمَالٌ حين تُرِيحون وحين تَسرَحون. وتَحمل أثقالَكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالِغِيهِ إلا بشقِّ الأنفسِ إن ربَّكم لرءوفٌ رحيم) فامتَنَّ الله تعالى على عباده أن سخَّر هذه الأنعام لهم لنفعهم في هذه الوجوه، فالثور وسائر الأنعام لها وظائفُ في الحياة خُلقَت لأجلها، ليس منها أن يصارعها الإنسان أو يَعبث بها أو يُهلكها حيثما اتفَقَ له. وأيةُ متعة تلك التي يَستشعرها من يرى ثورًا يقطُر ظهرُه دمًا وقد أثخَنَته الجراح من جرّاء السهام التي أصابته‍! أو من يرى مصارعًا أصابه الثور في أجزاء من بدنه أو أهلكه! إنه لمشهد يدعو إلى الاشفاق والرثاء، ولا يثير في النفس بهجة، ولا يُشيع فيه راحة.