اتَّفق العلماء على أنه لم يَرِد ما يُوجِب على المُصلِّى أن تكون يداه في وضْع معين هو في قيام الصلاة، فليس ذلك رُكنًا ولا شرطًا من شروط صحة الصلاة. وحجتهم في ذلك حديث المسيء صلاته، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما علَّمه كيفية الصلاة لم يَتعرَّض فيها لوضْع اليدين. فدل ذلك على عدم وجوبه.
ولكن اختلفوا بعد ذلك في الوضع المختار لليدين أثناء القيام في الصلاة.
1 ـ فقيل : يُسَنُّ وضْع إحدى اليدين على الأخرى، وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. رُوِىَ ذلك عن علي وأبي هريرة وعن النخعي وسعيد بن جبير، وعن الثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وحكاه ابن المنذر عن مالك، كما نَقَله ابن الحكم عنه أيضًا.
2 ـ وقيل : يُسَنُّ إرسال اليدين. أي ترْكهما إلى الجانبين، روَاه ابن المنذر عن ابن الزبير، وعن الحسن البصري، كما نقله النووي عن الليث بن سعد، ونقله ابن القاسم عن مالك، وهو ظاهِر مذهبه الذي عليه أصحابه.
3 ـ وقيل: يُخير المصلِّي بين وضع يديه وبين إرسالهما دون ترجيح واحد منهما. نقله ابن سَيِّد الناس عن الأوزاعي، وجاء في كلام الشافعي ما يُشير إليه.
وأصحاب الرأي الأول الذين قالوا بسُنِّيَّة وضع اليدين إحداهما على الأخرى قالوا: إن ذلك يكون بوضع اليد اليمنى على اليد اليسرى. وحجتهم في ذلك ما يأتي:
(أ) عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان الناس يُؤمرون أن يَضَع الرجل يديه اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة.
(ب) عن وائل بن حجر أنه وَصَف صلاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال في وصفه: ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرُّسْغ والساعد.رواه مسلم وأحمد. وفي رواية لأحمد وأبي داود: ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد.
(جـ) عن ابن مسعود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَرَّ به وهو واضع شماله على يمينه. فأَخَذ يمينه فوضَعها على شماله. رواه أبو داود.
(د) عن غطيف قال: ما نسيت من الأشياء فلم أَنْسَ أني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضعًا يمينه على شماله في الصلاة: رواه أحمد في مسنده.
(هـ) عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَؤمَّنا فيَأخُذ شماله بيمينه. رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي أوْصلها بعضهم إلى عشرين حديثًا مَرْوِيَّة عن ثمانية عشر من الصحابة والتابعين. وحَكَى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال: لم يأت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه خلاف.
وأصحاب هذا القول اختلفوا في أمرين: الأمر الأول في كيفية وضع اليد اليمنى على اليسرى، والأمر الثاني في مكان وضعهما على الصدر.
أما الأمر الأول فقد ورد في حديث وائل بن حجر الذي سَبَق ذِكْره، وجاء فيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وَضَع يده اليمنى على ظهْر كفه اليسرى والرسغ والساعد . وصوَّر الفقهاء ذلك، كما في شرح المنهاج وغيره، فقالوا: بأن يَقبِض بيمينه كُوع يساره وبعْض ساعِدها والرسغ. رَوَى بعضه مسلم، وبعضه ابن خزيمة، والباقي أبو داود. وقيل: يُخَيَّر بين بسْط أصابع اليمنى في عرض المَفْصِل وبين نشْرها صوْب الساعد، والمُعتَمد الأول. ويُفرِّج بين أصابع يُسراه وسطًا. قال الإمام الشافعي: والقصد من القبْض المذكور تسكين اليدين، فإن أَرْسَلهما ولم يَعبَث بهما فلا بأس، كما نصَّ عليه في “الأم” والكُوع هو العَظْم الذي يَلي إبهام اليد، والرُّسغ هو المَفْصِل بين الكف والساعد، أما البُوع فهو العَظْم الذي يلي إبهام الرِّجْل.
وأما الأمر الثاني فقد ورد فيه ما يأتي:
(أ) عن وائل بن حجر قال: صليتُ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوَضَع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. أَخرَجه ابن خزيمة في صحيحه.
(ب) عن أبي جرير الضبي عن أبيه قال: رأيتُ عليًّا يُمسِك شماله بيمينه على الرُّسغ فوق السُّرَّة. وفي إسناده أبو طالوت عبد السلام بن أبي حازم. قال أبو داود يُكتَب حديثه.
(جـ) أَخرَج أبو داود عن طاوس قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَضَع يده اليمنى على اليسرى. ثم يَشُدُّ بهما على صدره وهو في الصلاة. وهذا الحديث مُرسَل، أي سَقَط منه الصحابي.
(د) عن علي ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ من السنة في الصلاة وضْع الأكُفِّ على الأكفِّ تحت السُّرَّة. رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق الكوني. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يُضعِّفه. وقال البخاري : فيه نظر. وقال النووي: وهو ضعيف بالاتفاق.
وإزاء هذه النصوص اختُلِفَ في مكان وضْع اليدين:
1 ـ فقال كثيرون: يُسَنُّ أن يكون وضْعهما تحت الصَّدر وفوق السُّرَّة. اعتمادًا على النصوص الثلاثة الأولى، وهو قول سعيد بن جبير، وعليه أحمد في رواية عنه ومالك في روايته التي قال فيها بمشروعية وضْع اليدين لا إرسالهما. وعليه الشافعي أيضًا. قال في شرح المنهاج: ويُسَنُّ جعْل يديه تحت صدره وفوق سُرَّته في قيامه، لما صح من فعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ،وحكمة جعْلها تحت صدره أن يكون فوق أشرف الأعضاء وهو القلب، فإنه تحت الصدر مما يلي الجانب الأيسر. والعادة أن من احتفظ على شيء جعل يديه عليه.
2 ـ وقال جماعة : يُسَن وضْعهما تحت السُّرة، استنادًا إلى الأثر الرابع المروي عن علي. وقد عَلِمتَ أنه ضعيف، وعليه أبو حنيفة وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي. وعليه أحمد في رواية ثانية عنه.
3 ـ وهناك قول ثالث بالتخيير بينهما بلا ترجيح، وهو قول الأوزاعي وابن المنذر الذي قال في بعض تصانيفه: لم يَثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك شيء فهو مُخيَّر. وكذلك هو قول أحمد في رواية ثالثة عنه كما قال ابن قدامة في “المُغني” لأن الجميع مَرْوِىٌّ، والأمر في ذلك واسع. قال الشوكاني في “نيل الأوطار”: ولا شيء في الباب أصحَّ من حديث وائل بن حجر .أهـ. وهو قول الأكثرين.
أما أصحاب الرأي الثاني وهو إرسال اليدين إلى الجانبين لا وضْعهما على الصدر فحُجَّتُهم في ذلك ما يأتي:
(أ) حديث جابر بن سُمرة، قال : خرج علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: “مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمس؟ اسْكُنوا في الصلاة” رواه مسلم وأبو داود . قالوا: إن وضع اليدين على الصدر رفع لهما، ورفعهما منهي عنه. ورُدَّ ذلك بأن هذا الحديث وَرَد على سبب خاص، فإن مسلمًا رواه أيضًا عن جابر بلفظ: كنا إذا صلينا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقلنا: السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين، فقال لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :”علام تُومِئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شُمس، إنما يَكفي أحدكم أن يَضَع يديه على فخذه. ثم يُسلِّم على أخيه من على يمينه ومن على شماله” . كما رُدَّ هذا الحديث بأن قياس وضْع اليدين على الصدر على رفعهما عند السلام قياس مع الفارق ، فإنَّ وضعهما على الصدر ضم وتسكين لهما. أما رفعهما عند السلام فحركة واضحة لا تُناسب الخشوع.
(ب) قالوا: إن وضع اليدين على الصدر مُنافٍ للخشوع المأمور به في الصلاة، ورُدَّ قولهم هذا بأن المنافاة للخشوع ممنوعة. بل إن وضعهما على الصدر هو المساعد على الخشوع قال الحافظ: قال العلماء: الحكمة من هذه الهيئة أنها صفة السائل الذليل، وهو أمْنعُ للعبث وأقْرب إلى الخشوع.
(جـ) كما احتجُّوا أيضًا على أن إرسال اليدين سُنَّة بأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علَّم المسيء صلاته كيف يُصلِّي، ولم يَذكُر وضع اليمين على الشمال. كذا حكاه ابن سَيِّد الناس عنهم.
قال الشوكاني: وهو عجيب، فإن النزاع في استحباب الوضع لا وجوبه، وترْك ذِكْره في حديث المسيء صلاته، إنما يكون حجة على القائل بالوجوب. وقد عُلِمَ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اقتَصر على ذِكْر الفرائض فلي حديث المسيء. أهـ. هذا وعدم ذِكْر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لوضع اليدين في حديث المسيء صلاته، لا يَنفِي استحبابه الذي دَلَّ عليه قوله وفعله كما مَرَّ ذِكْره.
أما أصحاب الرأي الثالث، وهو التخيير بين وضع اليدين على الصدر وإرسالهما إلى الجانبين فاحتجوا بأن عدم ذكر شيء عنهما في حديث المسيء صلاته يدل على عدم تعيين كيفية خاصة، ورُدَّ ذلك بأن المأثور عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله وفعله يُعَيِّن استحباب وضعهما لا إرسالهما.
وخلاصة الموضوع: أن أرجح الأقوال هو استحباب قبْض اليد اليمني على رسغ اليد اليسرى، ووضعهما على أسفل الصدر فوق السُّرَّة، ويجوز إرسالهما عند السكون، وذلك هو قول الشافعية. هذا، وليس هناك دليل صحيح على أن اليدين يُسَنُّ وضعهما أعلى الصدر عند العنق وأنَّ أخْذ بعض الناس من قوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ) أن المراد: ضَعْ يدك على اليمنى على اليسرى تحت النَّحْر، تفسير لا أصل له يَعتمد عليه، يقول ابن كثير: ويُروى هذا عن على ولا يصح. كما ذَكَره الشوكاني ، لأن المعنى الصحيح للآية: اجعل يا محمد صلاتك وتقرُّبك بنحْر الإبل لله لا للأصنام كما يَفعل المشركون.
وننَبِّه إلى أن الأمر واسع كما قال ابن قدامة، ولا يجوز التعصب لرأي من الآراء، والخلاف والتنازع في هذه الهيئة البسيطة مع عدم الاهتمام بالخشوع الذي هو روح الصلاة والأساس الأول في قبولها عند الله، هو ظاهرة مَرَضِيَّة لا صِحِّيَّة. والإسلام قد نَهَى عن الجدل وبخاصة في هذه الهيئات البسيطة.