العذاب والنعيم يقعان على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة، فتنعم النفس – أي الروح- وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن . وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح ؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وعلماء الكلام.

وذكر شيخ الإسلام أن للناس في عذاب الروح والبدن في القبر عدة اتجاهات:-
الاتجاه الأول: قول من يقول : إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح ; وأن البدن لا ينعم ولا يعذب . وهذا تقوله ” الفلاسفة ” المنكرون لمعاد الأبدان ; وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين . ويقوله كثير من ” أهل الكلام ” من المعتزلة وغيرهم : الذين يقولون : لا يكون ذلك في البرزخ وإنما يكون عند القيام من القبور .

الاتجاه الثاني : قول من يقول : إن الروح بمفردها لا تنعم، ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وأصحاب أبي الحسن الأشعري كالقاضي أبي بكر وغيرهم; وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن . وهذا قول باطل خالفه الأستاذ أبو المعالي الجويني وغيره ; بل قد ثبت في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة

الاتجاه الثالث: قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب بل لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب .

ووصف شيخ الإسلام هذا القول بالشذوذ ثم قال:-

فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة فليعلم أن مذهب ” سلف الأمة وأئمتها ” أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة وأنها تتصل بالبدن أحيانا فيحصل له معها النعيم والعذاب . ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها ، وقاموا من قبورهم لرب العالمين . ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين واليهود والنصارى وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة .

ثم ذكر ابن تيمية عدة أدلة تؤكد على أن العذاب والنعيم على الروح والبدن معا، نذكر منها الآتي :-

1- في الصحيحين والسنن عن { البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ; فذلك قول الله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولا ، وقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد وباختلاف أضلاعه وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين .

2 – وقد ورد هذا الحديث في المسند وغيره بزيادات على ما في الصحيحين. وهو حديث حسن ثابت ، ومن الزيادات المهمة الواردة في المسند{ يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه : إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا : نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة فيجلسون منه مد البصر ; ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه . فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة ورضوان قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض قال : فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا فينتهون به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له قال : فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة . فيقول : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال : فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه } وذكر المسألة كما تقدم { قال : ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح فيقول له : أبشر بالذي يسرك فهذا يومك الذي قد كنت توعد فيقول له : من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول : أنا عملك الصالح . فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي } قال : { وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا : نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه فتفرق في أعضائه كلها فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ; فتتقطع معها العروق والعصب قال : فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المسوح قال : فيخرج منها كأنتن ما يكون من جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملاء من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : فلان بن فلان ; بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ; حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا فيستفتحون لها فلا يفتح لها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين } ثم يقول الله تعالى : اكتبوا كتابه في سجين – في الأرض السفلى – قال : فتطرح روحه طرحا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أو تهوي به الريح في مكان سحيق } قال : فتعاد روحه في جسده ; فيأتيه ملكان فيجلسانه ; فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه ; هاه ; لا أدري } وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال { : ويأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح ; فيقول : أبشر بالذي يسوءك ; هذا عملك الذي قد كنت توعد ; فيقول : من أنت فوجهك الوجه الذي لا يأتي بالخير ؟ قال : أنا عملك السوء . فيقول : رب لا تقم الساعة ثلاث مرات } . ففي هذا الحديث أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن ، وأنها تصعد وتنزل ، وأنها تعاد إلى البدن، وأن الميت يسأل فينعم أو يعذب ، وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة .

3- روى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه – وأكثر اللفظ له – عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قبر أحدكم الإنسان : أتاه ملكان أسودان أزرقان
يقال لهما منكر والآخر نكير . فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ؟ فهو قائل : ما كان يقول ; فإن كان مؤمنا قال : هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . فيقولان : إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك . ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه . ويقال له : نم . فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم . فيقولان له : نم . كنومة العروس : الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك . وإن كان منافقا قال : لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئا فقلته . فيقولان : إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك . ثم يقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك }
وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك مما يبين أن البدن نفسه يعذب .

4- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا احتضر الميت أتته الملائكة بحريرة بيضاء . فيقولون . اخرجي كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء . فيقولون : ما أطيب هذا الريح متى جاءتكم من الأرض ؟ فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه يسألونه ماذا فعل فلان فيقولون دعوه فإنه في غم الدنيا فإذا قال إنه أتاكم قالوا ذهب إلى أمه الهاوية . وأن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح . فيقولون : اخرجي مسخوطا عليك إلى عذاب الله فتخرج كأنتن جيفة حتى يأتوا به أرواح الكفار } رواه النسائي والبزار رواه مسلم مختصرا عن أبي هريرة رضي الله عنه . وعند الكافر ونتن رائحة روحه فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا . والريطة : ثوب رقيق لين مثل الملاءة . وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال : { إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة فإذا قبضت نفسه جعلت في حريرة بيضاء فتنطلق بها إلى باب السماء فيقولون ما وجدنا ريحا أطيب من هذه الرائحة فيقال : دعوه يستريح فإنه كان في غم الدنيا . فيقال : ما فعل فلان ما فعلت فلانة ؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض تقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحا أنتن من هذه فيبلغ بها في الأرض السفلى } ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه .
5- وأما انفراد الروح وحدها بالعذاب والنعيم فمما يدل عليه ما رواه كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه } رواه النسائي ورواه مالك والشافعي كلاهما . وقوله ” يعلق ” بالضم أي يأكل وقد نقل هذا في غير هذا الحديث .

فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر – إذا شاء الله – وإنما تنعم في الجنة وحدها وكلاهما حق . وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت عن مالك بن أنس قال : ” بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت ” وهذا يوافق ما روي : ” أن الروح قد تكون على أفنية القبور ” كما قال مجاهد : إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام يوم يدفن الميت لا تفارق ذلك وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة ” كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام } . وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن خير أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ; فإن صلاتكم معروضة علي . قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء }.

وهذا يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب – إذا شاء الله ذلك – كما يشاء وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة ومعذبة . ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى كما ثبت في الصحيح والسنن { أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية . اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم } .