حكم كتابة القرآن بغير الإملاء القرآني :

عقد الإمام السيوطي فصلًا في الجزء الثاني “ص 166” من كتابه “الإتقان” خاصًّا برسم الخطّ وآداب كتابته، وذكر بعض مَن أفردوا ذلك بالتصنيف، منهم أبو عمرو الداني وأبو عباس المراكشي واستطرد، فذكر أول من وضع الكتاب العربي ثم قال: القاعدة العربيّة أن اللفظ يُكتب بحروف هجائيّة مع مراعاة الابتداء به والوقف عليه.

وقد مهّد النحاة له أصولًا وقواعد، وخالَفها في بعض الحروف خطُّ المصحف الإمام، وقال أشهب: سُئل مالك: هل يُكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكَتْبة الأولى، رواه الداني في المقنع، ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة وقال أبو عمرو الداني موضِّحًا ذلك: يعني الواو والألف المزيدتين، في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو: أولوا وقال الإمام أحمد: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك، ورأى البيهقي في “شُعب الإيمان” هذا الرأيَ؛ لأن الذين كتبوا المصحف كانوا أكثر علمًا، وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم.

ثم ذكر السيوطي أن أمر الرسم ينحصر في ستِّ قواعد، الحذف والزيادة والهمزة والبدل والوصل والفصل وما فيه قراءات، ومثَّل لذلك باستفاضة ، وذكر السِّرَّ في حذف الحرف الأخير من بعض الكلمات مثل “يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ” “سَنَدْعُ الزّبانِيَة” أن المراكشي قال: السِّرّ في حذفها: التنبيه على سرعة وقوع الفعل، وسهولته على الفاعل، وشدة قَبول المتأثر به في الوجود.وهكذا ذكر مبرِّرات لكل قواعد الرسم.

وقد سُئلت لجنة الفتوى بالأزهر سنة 1355 هـ (1936م) فأجابت بما ملخصه، أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أمر بأن تُنسخ عدة نسخ من المصحف الذي كان موجودًا عند السيدة حفصة بنت عمر أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ وعن أبيها. وكان هذا المصحف عند عمرَ ومِن قَبله كان عند أبي بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنهما ـ وكان المصحف مأخوذًا من القطع المتعدِّدة التي كان مكتوبًا عليها وفي زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووزّع عثمان هذه النسخَ على الأمصار وأبقى واحدة منها بالمدينة. وكل مصحف من هذه المصاحف يسمَّى “المصحف الإمام” وقد رُسمت بعض الكلمات فيها رسمًا يخالف قواعد الإملاء المعروفة الآن. وجرى المسلمون من عهد عثمان إلى الآن على اتباع العثماني.

ثم قالت اللجنة: إن الجمهور من العلماء على التزام الرسم العثماني، وحرمة مخالفته، واستدلُّوا على ذلك بإجماع الصحابة على الصِّفة التي كتب عليها عثمان، ولم يُرو عن واحد منهم أنه كتب القرآن على غير هذه الصفة. وذكرت اللجنة ما نُقل عن مالك وأحمد والبيهقي ممّا سبق ذكره هنا نقلًا عن السيوطي في “الإتقان”.

ثم قالت اللجنة: إن بعض العلماء ذهبوا إلى جواز كتابته بأي رسم كان، ولو خالف الرسم العثماني، فكل رسم حَصَلت به الدلالةُ فهو جائِزٌ، ولم يتعرّض للكيفيّة التي كُتب بها، وإجماع الصحابة لا يدلُّ على أكثر من جواز رسمه على نحو ما كتب الصحابة، أما رسمه على غير هذه الطريقة فلم تتعرض له الصحابة لا بحظْر ولا بإباحة وذكرت ما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه “الانتصار” موضِّحًا لهذا الرأي الذي لا يحتِّم التزام الرسم العثماني. ولكن اللجنة اختارت بقاء المصحف على الرسم الذي كان عليه في عهد عثمان ـ رضي الله عنه.

وعدم كتابته على الرسم الإملائي الحديث، فإن الرسم الحديث ما يَزال موضع الشَّكوَى لعدم تيسُّر القراءة به، حيث توجد به أحرف لا تُنطق، وتُنقص منه حروف تنطق، ولا تتيسر القراءة والفَهم إلا بعد التمرُّن الطويل، والإتقان لمعرفة قواعد الإملاء. ثم من قواعد الإملاء ما هو عُرضة للتعديل، فهل يُكتبُ القرآن على القواعد الإملائيّة المعدّلة أو القديمة؟
وقد تُوجد عدة نسخ مختلفة الرّسم، وهنا تكون البلبلة والتعرّض لتحريف القرآن، وضعف الثّقة به.

ثم قالت اللجنة: إن تلاوة القرآن لا تُؤخذ أبدًا من الرّسم، بل من التلقِّي؛ لأن هناك أحكامًا لتجويد القرآن وإخراج الحروف من مخارِجها الحقيقيّة لا يُمكن للشكل الإملائي أن يدلَّ عليها، ولذلك أرسل عثمان مع المصاحف قُرّاءً، فأمر زيد بن ثابت أن يُقرئ بالمدينة، والمغيرة بن شهاب أن يُقرئ بالشام، وعامر بن عبد قيس أن يُقرئ بالبصرة، وأبا عبد الرحمن السلمي أن يقرئ بالكوفة، فاللائق بقدسيّة القرآن بقاء كتابته على الرسم العثماني. انتهى تلخيص الفتوى.

وعلى ضوء ما جاء عن السيوطي في “الإتقان” وما اختارته لجنة الفتوى عملت بحوث ونشرت مقالات وصدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية سنة 1956م، وقرّر مجمع البحوث الإسلاميّة في دور انعقاده الرابع 1968م الالتزام بالرسم العثماني، ومنها البحث الذي قدّمه الدكتور محمد محمد أبو شهبة، مُشيرًا إلى بعض التآليف في ذلك، كالمقنع لأبي عمرو الداني، عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل لأبي العباس المراكشي المتوفَّى سنة 721هـ والمعروف بابن البناء، والأرجوزة للشيخ محمد بن أحمد المتولي، وشرحها للشيخ محمد علي خلف الحسيني شيخ المقارئ المصريّة في عهده، مع تذييل الشرح بكتاب سمّاه “مرشد الحَيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن” وإيقاظ الأعلام إلى اتباع رسم المصحف الإمام للشيخ محمد بن حبيب الله بن عبد الله بن أحمد بن مايابي الجكني الشنقيطي ومناهل العرفان للشيخ الزرقاني، المدخل لدراسة القرآن الكريم لأبي شهبة، وهذا الحكم موجود في كتب الأئمة وعلماء التفسير، وجاء في الشفا للقاضي عياض: مَن غَيَّرَ حرفًا بزيادة أو نقص، أو بدَّله بحرف غير فهو كافر، ووافقه على ذلك شارحه الخفاجي وشارحه ملَّا على القاري. “منبر الإسلام ـ ذو الحجة 1402هـ”.

حكم كتابة المصحف بغير الحروف العربية :

وأما كتابة المصحف بغير الحروف العربية. فقد ذكر السيوطي في “الإتقان” ج 2 ص 171 ما نصه: وهل تجوز كتابته بقلم غير العربي؟ قال الزركشي : لم أجد فيه كلامًا لأحد من العلماء. قال: ويحتملُ الجواز؛ لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربيّة، والأقرب المنعُ كما تحرُم قراءته بغير لسان العرب، لقولهم: القلم أحد اللّسانين، والعرب لا تعرف قلمًا غير العربي، وقد قال الله تعالى: (بلسانٍ عَرَبِيٍّ مُبين) (سورة الشعراء : 195).

وقال الشيخ محمود أبو دقيقة من كبار علماء الأزهر: أجمع الأئمة الأربعة على أنه لا يجوز كتابة القرآن بغير اللغة العربيّة؛ لأن كتابته بغيرها تُخرِجه عن الرسم الوارد الذي قام الإجماع على أنه يَجِب التزامُه، بل قد تؤدِّي كتابتُه بغير العربيّة إلى التغيير في اللفظ؛ لأن بعض الحروف العربيّة لا نظيرَ له في بعض اللّغات الأخرى، والتغيير في اللفظ يؤدِّي إلى التغيير في المعنى ،وحيث كانت الكتابة بغير العربيّة تؤدِّي إلى هذا فلا يجوز. وقال بعض علماء الحنفيّة: إنّ مَن تعمَّد كتابة القرآن بغير العربيّة يكون مجنونًا أو زِنديقًا، فالمجنون يُداوَى والزِّنديق يُقتلُ “مجلة الأزهر ـ المجلد الثالث ص 31-34).