الإيمان بالغيب جزء من عقيدة المؤمن، ومنها ما سيقع من فتن وملاحم ، غير أن هذه جاءت عن طريق الإجمال ، فلابد في تفسيرها من اجتهاد جماعي من حيث إنزال النصوص الواردة على الواقع ، كما أن الاعتماد على مخطوطة تحوي الفتن والملاحم مع الزعم أنه لم يصل إليها أحد غاية في الخطورة ، لأن الله تعالى أتم الدين ، وأجمعت الأمة أن ما في يدها من مصادر كافية حاوية لشرع الله على سبيل الإجمال، واعتماد الروايات الضعيفة لا تصلح في مجال العقيدة ، وهذا باتفاق علماء الأمة .

يقول الدكتور عبد العزيز دخان :
لقد اقتضت حكمة الله عزّ وجلّ أن يكون الإيمان بالغيب جزءا من عقيدة المسلم، ومن هذا الغيب الذي أمر المسلم أن يؤمن به ويعتقده ما جاءت به الأحاديث الصّحيحة ممّا سيكون من الفتن والملاحم قبل قيام السّاعة، ولكنّ هذه الأحاديث جاءت مجملة ليس فيها تفصيل في الزّمان والمكان لحكمة أخرى أيضا هي حكمته – عزّ وجلّ- في إخفاء عمر كلّ إنسان، فلا أحد يعلم كم يعيش ولا متى يموت، ولا أين سيموت، وهذا من أجل أن ينشغل النّاس بالعمل ويقبلوا على عمارة الأرض وتحقيق سنن الله في التّغيير، دون أن يعلموا إن كانوا سوف يعيشون ليشهدوا شيئا من هذه الحوادث الكبيرة والملاحم العظيمة والفتن المدلهمّة، أو أنّهم سيقضون ويمضون قبل أن يحدث شيء من ذلك .

ولذلك فإنّ محاولة تنزيل هذه الأحاديث على وقائع وحوادث محدّدة ممّا لم يقع بعد، واستصدار الأحكام بناء على ذلك يعتبر خطأ كبيرا ومزلقا خطيرا لا تحمد عواقبه ولا تقدّر مصائبه. وكان هذا أوّل مزلق وقع فيه مؤلّف هذا الكتاب . إنّ الكلام عن ظهور المهدي بعد سنتين أو ثلاث لهو جرأة عظيمة لا يقدم عليها إلاّ مجازف .
وإنّ محاولة تنزيل نصوص حديثية -بعد ثبوت صحّتها – على وقائع معيّنة لم تتّضح معالمها ولم تستبن ملامحها أمر من الخطورة والجسامة بمكان عظيم، بحيث لا يجوز لأحد أن يقتحمه وحده ويقرّر ويجزم في أمور كثيرة دون الرّجوع إلى هيئات العلماء في كلّ بلاد المسلمين وطرح الموضوع عليهم واستشارتهم في ذلك .

إنّه يكفينا ما عانته الأمّة في تاريخها وحاضرها من استبداد بالرّأي واعتداد به جرّ إلى فتن ودماء وحروب لم تحصد منها الأمّة إلاّ تأخّرا وتخلّفا وضعفا وفرقة وانقساما .
أمّا إذا كان هناك قضيّة جزئية تخصّ فردا من أفراد هذه الأمّة فلا حرج على العالم أو من آنس من نفسه فهما في هذه القضيّة أو غلب على ظنّه أنّه عرف حكم الله فيها فلا حرج أن يفتي فيها بما وصل إليه اجتهاده وعلمه.

وهذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عليها أمر جلل يتعلّق بكل فرد في هذه الأمّة ويقتضي منه سلوكا شرعيا، وينبني على ذلك كثير من التّصرّفات و الأفعال، بعضها يتعلّق بالأفراد كلّ على حدة،وبعضها يتعلّق بالأمّة كلّها، فلا بدّ من اجتماع كلمة علماء هذه الأمّة ودعاتها وأهل الرّأي فيها ، حتّى يكون التّصرّف بعد ذلك سديدا ينطلق من فهم جماعي لهذه الأمّة و ليس لفرد من أفرادها .

وهناك بعض ملحوظات حول مادّة كتاب هرمجدون :
أوّلا: لقد أشار المؤلّف في ص 110 إلى أنّ كثيرا من أحاديث الفتن وملاحم آخر الزّمن وردت في كتب غير مشهورة ومخطوطات ليست سهلة المنال، ولذلك خفيت على أكثر النّاس قديما وحديثا إلاّ من اختصّه الله بعلمها حتّى يبثّها وينشرها إذا جاء وقتها وحان أوانها !!.. وأنا لا أدري :هل يقصد المؤلف أنّ كلّ العلماء السّابقين غابت عنهم هذه الكتب وما تضمّنته من الأحاديث، واستطاع هو أن يعرفها ويكشفها ويبيّنها للنّاس؟. إن كان هذا هو المقصود فقليلا من التّواضع والإنصاف أيّها الرّجل، فإنّ العلماء السّابقين لم تفتهم هذه الكتب وهذه الأحاديث، بل كثر التّنبيه عليها إجمالا وتفصيلا. ولو كان شيء منها يثبت أمام موازين النّقد العلمي لأدرجوه في كتبهم واحتفوا به واحتفلوا به، تماما كالأحاديث التي صحّت عن أبي هريرة وحذيفة وغيرهما من الصّحابة في شأن الفتن والملاحم. ومن الأقوال المشهورة ما جاء عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى- :” ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتّفسير” .

قال الخطيب البغدادي بعد أن ساق قول الإمام أحمد هذا :” فأمّا كتب الملاحم فجميعها بهذه الصّفة، وليس يصحّ في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتّصلت أسانيدها إلى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- من وجوه مرضية وطرق واضحة جليّة”.

وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان بعد أن أورد قول الإمام أحمد هذا :” ينبغي أن يضاف إليها الفضائل، فهذه أودية الأحاديث الضّعيفة والموضوعة، إذ كانت العمدة في المغازي على مثل الواقدي [ وهو مشهور بالوضع ومتّهم بالكذب]، وفي التّفسير على مثل مقاتل والكلبي [ وهما على شاكلة الواقدي]، وفي الملاحم على الإسرائليات…”.

وقال يحي بن معين:” وهذه الأحاديث كلها التي يحدّثون بها في الفتن، وفي الخلفاء، تكون كلّها كذبا وريحا، ولا يعلم هذا أحد إلاّ بوحي من السّماء”.
وهذا القدر يكفي في تقرير هذه المسألة وبيان خطأ هذا المتجرّئ على مقام الحديث وأهله.

وأمّا فيما يتعلّق بالمخطوطة التي زعم هذا المؤلّف أنّه اعتمد عليها واعتبرها نصّا نادرا وساق منها ذلك الحديث الغريب الذي فيه هتلر وأمريكا وصدّام وجمال عبد النّاصر وغير ذلك من العجائب والغرائب فلا يضارعها ويضاهيها إلاّ قصّة ذلك الحديث الذي أخرجه بعضهم من الكتب القديمة أثناء حرب الخليج الأخيرة وروّج له وطبّقه على تلك الأيّام وجعله يبشّر بنهاية لتلك الحرب تكون فيها نهاية دول كبرى.

إنّ تحقيق المخطوطات وتوثيقها يجب أن يخضع للقواعد التي وضعها المحدّثون لذلك،و لا يسلّم بما ورد في هذه المخطوطات إلاّ بعد دراسة أسانيدها ومعرفة درجتها العلمية، ولو كان شيء من ذلك صحيحا لذكره العلماء القدامى الذين كان الكثير منهم يحيط علما بمعظم هذه المخطوطات وما تضمّنتها من الأحاديث والرّوايات .

ثانيا: جعل المؤلّف من ترخيص وتساهل بعض العلماء في رواية الحديث الضّعيف والاستدلال به في الترّغيب والتّرهيب مدخلا ومنطلقا وحجّة ليستدلَ به هو في قضايا وأحداث الفتن والملاحم، وهذا في الحقيقة خطأ كبير، إذ يجب أن نفرّق بين ما عرف عن العلماء من التّرخيص في إيراد الأحاديث الضّعيفة في باب التّرغيب و التّرهيب وبين الاستدلال بها في تقرير قضايا على جانب كبير من الخطورة، وتنبني عليها كثير من الأحكام والتّصرّفات في واقع المسلمين.

فأمّا الأوّل فيمكن أن نوافق المؤلّف عليه، رغم أنّ هناك من العلماء من منع الاستدلال بالحديث الضّعيف مطلقا كما هو معروف في كتب علوم الحديث، إضافة إلى هذا فإنّ الحديث الضّعيف الذي يتساهلون في إيراده إنّما هو ما كان ضعفه ليس شديدا، يعني ليس سببه فسق الرّاوي أو كذبه أو اتّهامه بالكذب، وهو الأمر الذي يبدو غير واضح عند هذا الأستاذ من خلال التّعميم الذي جزم به، ومن خلال استدلاله بأحاديث من هذا النّوع الشّديد الضّعف، فإنّ أكثر الأحاديث التي استدلّ بها هذا المؤلّف هي من هذا النّوع الذي لم يقل العلماء بجواز الاستدلال به حتّى في التّرغيب والتّرهيب.

أمّا الاستدلال بها على وقائع معيّنة وتنزيلها على حوادث محدّدة فلم يقل أحد إنّ هذا من باب التّرغيب والتّرهيب. إنّ التّرغيب والتّرهيب هنا هو فقط في تحذير النّاس من الفتن ودعوتهم إلى العمل الصّالح والاعتصام بالكتاب والسّنة والدّوران معهما حيث دارا، وهذا الأمر يغني فيه ويكفي أحاديث صحيحة كثيرة، فلا حاجة بنا إلى الأحاديث الضّعيفة، فضلا عن الضّعيفة جدّا أو الموضوعة.