يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوى فى نعيه للشيخ مصطفى الزرقا:
الشيخ مصطفى الزرقا أحد أعلام الفقه في عصرنا ورث الفقه كابراً عن كابر، كان أبوه فقيها وجده فقيها ذرية بعضها من بعض، أبوه من علماء الفقه الحنفي المبرزين وقد ترك أثراً ملموساً نُشر منذ سنوات وهو شرح قواعد المجلة، القواعد الفقهية التي بدأت بها مجلة الأحكام العدلية وهو شرح متميز
وجده الشيخ محمد الزرقا كان أحد فقهاء عصره وكان يدرِّس الحاشية الشهيرة “حاشية ابن عابدين” علامة المتأخرين، فلا عجب أن نشأ الشيخ في هذا البيت العريق وهذه الأسرة العلمية الدينية وتعلم الشيخ الزرقا على الطريقة التقليدية يعني على الحُصُر والبُسُط في المسا جد والمدارس القديمة وتعلم في المدرسة الشرعية الخسروية على الطريقة النظامية الحديثة وحصل على شهادتها الشرعية ثم تقدم إلى شهادة البكالوريا مع رفيقه وصديقه معروف الدواليبي وحصل على البكالوريا في العلوم والآداب وكان أول الناجحين يعني حصل على الترتيب الأول ثم في السنة التي بعدها حصل على البكالوريا في الفلسفة أيضا ثم التحق بكلية الحقوق في الجامعة السورية التي سميت بعد ذلك جامعة دمشق، التحق بكلية الحقوق وكلية الآداب معاً يعني كان يدرس في الصباح في كلية الحقوق وفي المساء في كلية الآداب وحصل على الإجازة أو الليسانس في الكليتين وكان ترتيبه الأول أيضاً فكان حاصلاً على هذه الثقافات، الثقافة الشرعية والثقافة القانونية والثقافة الأدبية كما تعلم الفرنسية، فوالده ليُعِدَّه للمستقبل أدخله المدارس الفرنسية وتعلم فيها الفرنسية وهذا نفعه في الدراسة القانونية، والشيخ منذ تخرج من المدرسة الخسروية بدأ يدرِّس بها ويأخذ مكان والده وبعد تخرجه في الحقوق اشتغل بالمحاماة لمدة عشر سنوات
وُلِد في مدينة حلب سنة 1904 يعني عُمِّر عمراً مباركاً خمسة وتسعين عاماً في عطاء مستمر وظل معطاءً إلى آخر لحظة في حياته، أخبرني الأخ العالِم النابه الشيخ مجد مكي قال أنه قبيل وفاته عُرضت عليه فتوى من شركة الراجحي فراجعها ونقحها وحذف منها وأضاف وصاغها صياغة و كان رجلاً ذا أناة وكان رجلا مدقِّقاً .. يدقق في الكلمة ووضع الكلمة فبعد الصياغة أعطاها لهم وظل ينتظر صلاة العصر: هل جاء الوقت؟ هل جاء الوقت؟ ثم وافاه الأجل بالأمس في مدينة الرياض ودُفن بها اليوم.

كان الشيخ الزرقا أحد فقهاء الأمة ترك وراءه آثاراً شتى، ترك وراءه أجيالاً تعلمت على يديه، في سوريا وفي الأردن في الجامعة الأردنية التي ظل يدرس الشريعة فيها ثمانية عشر عاماً وفي جامعة أم درمان الإسلامية وفي البلاد التي زارها هنا وهناك تتلمذت عليه أجيال، خمسة وسبعين سنة ثلاثة أرباع قرن وهو يعطي لهذه الأمة وشارك في وضع قوانين؛ قانون الأحوال الشخصية في سوريا والقانون الموحد الذي وضع أيام الوحدة بين مصر وسوريا وكان هو رئيس اللجنة وكان من أعضاء اللجنة الشيخ حسن مأمون مفتي مصر والذي صار شيخ الأزهر بعد ذلك ووكيل مجلس الدولة، ووضع قانون في غاية الروعة وفيه خطوات إصلاحية وأخذ من جميع المذاهب، من الشريعة بمجموع مذاهبها، وأيضاً اشترك الشيخ في القانون الوضعي، القانون المدني والنظرية العامة للالتزامات وغيرها و ما وضعه الشيخ نُشر ونُشرت أخيراً أيضاً فتاوى الشيخ الزرقا في مجلَّد وهى الفتاوى التي أفتى بها من سألوه وكانت منثورة في المجلات المختلفة وهي فتاوى نافعة تعبِّر عن فقه عميق، فقه للنصوص وفقه للمقاصد وفقه للواقع، فقه يقوم على مراعاة التيسير وليس على مراعاة الشكل فقط، مراعاة الحقائق ومراعاة الواقع ومراعاة التيسير على الناس وليس معنى التيسير التساهل في أمر الدين، بعض الناس يظنون أن الشخص المتساهل هذا رجل ضعيف الدين، هذا ليس صحيحاً .. الشيخ الزرقا كان رجلاً يخاف الله ويتَّقيه ولا يتنازل عن أمر يعتقده حقاً مهما كلفه ذلك ولكنه كان ميسِّراً كما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أنس “يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا” وكما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل حينما بعثهما إلى اليمن فقال “يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا”، وقد قال الإمام سفيان بن سعيد الثوري: إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد، فهذه فتاوى الشيخ الزرقا وقد شرفني بأن أقدِّم لها وكتبت لها مقدمة نزولاً عند رأيه وقديماً قالوا الامتثال خير من الأدب، الحقيقة أني منذ أربعين سنة بيني وبين الشيخ الزرقا مودة منذ ظهر كتابي “الحلال والحرام في الإسلام” وقرأه الشيخ الزرقا وسُرَّ به وأثنى عليه وقال أن اقتناء هذا الكتاب واجب على كل أسرة مسلمة ولازالت هذه المودة عميقة بيني وبين الشيخ وكنا أعضاء معاً في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي ونلتقي في المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي وكان للشيخ آراء سبق بها عصره وإن لم يأخذ بها المجمع ولكنه كان يقول رأيه بحرية وفي شجاعة ولا تأخذه في الله لومة لائم.

فلا عجب أن أُعطي جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1404هـ في الفقه الإسلامي وقد شارك الأستاذ الزرقا في الحياة السياسية ورشح لمجلس النواب في سوريا وكان وزير العدل مرتين سنة 1954 وسنة 1962 وكان أول خبير لموسوعة الفقه الإسلامي في الكويت حينما أرادت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في الكويت أن تنشئ موسوعة للفقه الإسلامي أخذ الشيخ الزرقا باعتباره كان رئيس لجنة الموسوعة الفقهية التي كانت في جامعة دمشق وفي كلية الشريعة بعمادة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله وهو الذي وضع اللمسات الأولى لهذه الموسوعة وكانت في الأصل تقوم على أساس المذاهب الثمانية ثم رأت الوزارة بعد ذلك أن تقتصر على المذاهب الأربعة، الشيخ الزرقا أحد أعلام الأمة ترك لنا تراثاً مكتوباً يكفي هذه السلسلة الذهبية كما سماها الشيخ علي الطنطاوي “الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد” المدخل الفقهي العام والمدخل لنظرية الالتزام وغيرها والتي كتب عنها الشهيد عبد القادر عودة مُثنياً عليها ثناء عاطراً في مجلة “المسلمون” في سنة 1953 على ما أذكر كتب الشهيد عبد القادر عودة يثني على هذا الكتاب الذي يسَّر الفقه الإسلامي لطلاب الحقوق والذي يعرضه عرضاً جديداً، الشيخ عبد القادر عودة عانى معاناة في فهم الفقه، يقول كنت أقرأ الكتاب مرة ثم مرة ثم مرة حتى أستطيع أن أفهم فيقول هذا الكتاب أزال هذه العقدة وقرب الفقه الإسلامي من الدارسين العصريين.