لا شك أن الحسد والعين بينهما عموم وخصوص وجهي، بمعنى أن الحسد أَعَمُّ من وجه، وأخص من وجه آخر، وكذلك العين، فمن حيث السبب أو الباعث على الحسد والعين فهما يلتقيان فيما كان سببه أو باعثه: البغض، أو الكراهية للنعمة تكون عند الغير وإرادة زوالها عنه، وتنفرد العين فيما كان سببه الإعجاب والاستحسان، ومن حيث السعي في إزالة النعمة عن الغير يلتقيان فيما كانت وسيلته الرؤية، أو التوجه بالروح أو الوهم والتخيل، وينفرد الحسد فيما كانت وسيلته غير ذلك، من الاتصال والملامسة، أو النميمة أو الأدعية، والرُّقَى، والتعوُّذات.

ولا شك أيضا أن الحسد والعين ثابتان بدلالة النقل والعقل، والتأثير إنما يكون بإذن من الله ـ عز وجل ـ الأمر الذي يقتضي عدم الخوف من أحد إلا من الله وحده، ويقتضي كذلك مزيدًا من التملُّق لله حتى يحمي من كيد الحساد، والعيانين.

والحسد منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود حسب حال المحسود، والحاسد، وأنه لا عقاب على مَن كان حسده في قلبه، ولم يَسْعَ لإبرازه إلى عالَم الوجود.

والحَسَدَ لا ينشأ مِن فَرَاغ، وإنَّمَا له أسبابه وبواعثه الذاتية والغَيْرِيَّة، كما أن له آثاره الفردية والجماعية، والتي تَتَعَدَّى الدنيا إلى الآخرة.

كما لا يَصِحُّ المبادرة باتِّهَامِ أَحَدٌ بأنه حَاسد أو عاين، وإلا كانت الشكوك، وفقد الثقة بين الناس، وبالتالي تكون الفُرْقة والقطيعة، الأمر الذي يفتح الباب في وجه الأعداء فيُسَلَّطوا على الإسلام وأهله، وإنما لابد من الدليل اليقيني القطعي، وذلك أمر بعيد المنال.

وللوقاية والعلاج من الحسد والعين أساليب، ووسائل كثيرة، بعضها جاءت به السنة وحدها، وبعضها جاء بالكتاب والسنة، وبعضها مُستَقًى من الواقع مادام لا يتصادم مع الكتاب والسنة.

ومن السهل رسم طريق الوقاية والعلاج على هذا النحو:

1ـ التحصن بالله والتعوذ به، سبحانه وتعالى:
وذلك بالمواظبة على ذكر الله بعموم، والاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد، وكذلك العائن بخصوص، فإن هذا الذكر أكبر حماية وحصانة للعبد من شر شياطين الجن، وشياطين الإنس.
وقد أمر الله بذلك في قوله: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ. وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ. وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ. وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (سورة الفلق:1ـ5).

2ـ تقوى الله، عز وجل:
المُتَمثِّلة في توحيده ـ سبحانه ـ والإقلاع عن المعاصي، والمواظبة على فعل الطاعات، قال، تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (آل عمران: 120).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن عمه عبد الله بن عباس: “احفظ الله يَحْفَظْك، احفظ الله تَجِدْه تِجَاهك” (الحديث أخرجه الترمذي في: السنن: كتاب صفة القيامة: باب منه 4/575ـ576 برقم 2516 من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بلفظ: كنت خلف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومًا فقال: “يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاسْتَعِنْ بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجَفَّت الصحف”، وعَقَّبَ عليه بقوله: “هذا حديث حسن صحيح”، وأحمد في: المسند 1/293،303، 307ـ308، من حديث ابن عباس مرفوعًا به، وينحوه).

3ـ الصبر والتحمُّل:
فلا يُحَدِّث نفسه بأذى الحاسد أصلًا، ولا يقاتله، ولا يشكو، وتَمادِي الحاسد والعائن يكون سببًا في هلاكه من حيث لا يدري ولا يشعُر.
يقول ابن القيم، رحمه الله:
“السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا، فما نصر على حاسده، وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله، ولا يستطل تأخيره، وبَغْيه، فإنه كلما بَغَى عليه كان بغيه جندًا، وقوة للمبغي عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه، وهو لا يشعر، فبغيه سِهَام يَرْمِيها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغي عليه ذلك لَسَرَّهُ بغيه عليه، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله، وقد قال، تعالى: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) (الحج: 60).
فإذا كان الله قد ضَمِنَ له النصر مع أنه قد استوفى حَقَّه أولًا، فكيف بمن لم يستوف شيئًا من حقه، بل بغي عليه وهو صابر، وما من ذنب أسرع عقوبة من البغي، وقطيعة الرحم، وقد سبقت سنة الله: أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دَكًّا” (انظر: بدائع الفوائد لابن القيم 2/241).

التوكل على الله:
وذلك بالأخذ بالأسباب التي مضت مع الاعتماد التام على الله ـ عز وجل ـ فإن هذا التوكل بهذه الصورة من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يُطِيق من أذى الخلق، وظلمهم، وعُدوانهم، قال، تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3).
وقد قيل: “لو تَوَكَّل العبد على الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ، وكَادَتْه السماوات والأرض، ومن فيهن، لجعل الله له مخرجًا من ذلك، وكَفَاهُ ونَصَرَه” (انظر: بدائع الفوائد لابن القيم 2/241).

التوبة النصوح:
بأن يتذكر نعمة الله عليه، وسوء أَدَبِه مع هذه النعمة، حيث استخدمها في معصية الله ـ عز وجل ـ فَيَنْقَدِح في قلبه الخوف من الله ومن عقابه فيُقْلِع، ويَرُد المظالم إلى أصحابها فورًا، ويعزم عزمًا أكيدًا ألا يعود وإنْ قُطِّعَ وحُرِّقَ بالنار، عند ذلك يكون العفو عنه من الله وصرف كَيْد الحُسَّاد والعَيَّانِين.
قال، تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (هود: 3).
وقال، تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31).

الإحسان إلى الحاسد والعائن:
وذلك بالكلمة الطيبة، والهَدِيَّة، والصدقة، وإطعام الطعام، والاحترام، والسؤال، والتهنئة بنعمة، والمواساة في الشدة، والإفساح في المجلس، وطَلاقة الوَجْه نحوها، قال، تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34ـ35).
وقال، تعالى: (وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (القصص:54).
ووجه الدلالة أن الإحسان يَسْتَلُّ سَخَائِمَ النفوس وحقدها فإذا هي تتحول من عدو إلى صديق.

7ـ الرقية بالمشروع:
إذ كان جبريل ـ عليه السلام ـ يرقي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها.
عن عائشة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رقاه جبريل، قال: “باسم الله يُبْرِيك، ومن كل داء يَشفِيك، ومن شر حاسدٍ إذا حسد، وشر كل ذي عين” (الحديث أخرجه مسلم في: الصحيح: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرُّقى 4/1718 رقم 2185/39 من حديث عائشة مرفوعًا بهذا اللفظ).

وعن أبي سعيد: أن جبريل أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا محمد، اشتكيتَ؟ فقال: “نعم”، قال: “باسم الله أَرْقِيك، مِن كل شيء يُؤْذيك، مِنْ شَرِّ كل نفس أو عَيْنِ حاسد الله يَشفيك، باسم الله أَرْقِيك” (الحديث أخرجه مسلم في: الصحيح: كتاب السلام: باب الطب والمرض والرقى 4/1718ـ1719 رقم 2186/40، والترمذي في: السنن: كتاب الجنائز: باب ما جاء في التعوذ للمريض 3/303 رقم 972، وعَقَّبَ عليه بقوله: “حديث حسن صحيح”، وابن ماجه في: السنن: كتاب الطب: باب ما عُوِّذ به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما عوذ به2/1164 رقم 3523، كلهم من حديث أبي سعيد مرفوعًا به).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: “أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يَنْفُث على نفسه ـ في المرض الذي مات فيه ـ بالمعوذات، فلَمَّا ثقل كنت أنفث عليه بِهِنَّ، وأمسح بيده نفسه لبركتها” (الحديث أخرجه البخاري في: الصحيح: كتاب الطب: باب الرقى بالقرآن والمعوذات 10/195 رقم 5735 “فتح الباري” من حديث معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة مرفوعًا بهذا اللفظ، وفي آخره: قال معمر: “فسألت الزهري: كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه”).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: “أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أمر ـ أن يسترقي من العين” (الحديث أخرجه البخاري في: الصحيح: كتاب الطب: باب رقية العين 10/199 رقم 5738 من حديث عائشة مرفوعًا بهذا اللفظ “فتح الباري”).
وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأى في بيتها جارية في وجهها سَفْعَة (السَّفْعَة ـ بفتح المهملة، ويجوز ضمها، وسكون الفاء بعدها عين مهملة ـ سواد في الوجه، ومنه سَفْعَة الفرس: سواد ناثيته، وقيل: حُمرة يعلوها سواد، وقيل: صُفرة، وقيل: سواد مع لون آخر، قال ابن حجر في: فتح الباري 10/202: “وكلها متقاربة، وحاصلها: أن بوجهها موضعًا على غير لونه الأصلي، وكأن الاختلاف بحسب اللون الأصلي، فإن كان أحمر فالسَّفعة سواد صِرْف، وإن كان أبيض فالسفعة صفرة، وإن كان أسمر فالسفعة حمرة يعلوها سواد”)، فقال: “اسْتَرْقُوا لها؛ فإن بها النظرة” (الحديث أخرجه البخاري في: الصحيح: كتاب الطب: باب رقية العين 10/201 رقم 5739 فتح الباري من حديث محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة مرفوعًا بهذا اللفظ، وعقَّب عليه البخاري بقوله: “وقال عقيل عن الزهري: أخبرني عروة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تابعه عبد الله بن سالم عن الزبيدي”).

8ـ أمر العائن بالاغتسال:
بعد التأكد من أنه صنع ذلك على النحو الذي ذُكِر آنفًا، ثم صب فضل هذا الماء على المعيون، لاسيما مواضع الضعف منه.
فقد تقدم حديث أبي أمامة سهل بن حنيف: أن أباه حدَّثه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج، وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كانوا بشِعب الحرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف ـ وكان أبيض حسَن الجسم، والجلد ـ فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيتُ كاليوم، ولا جِلْد مُخَبَّأَة، فَلُبِطَ ـ أي صرع وزنًا ومعنى ـ سهل، فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: “هل تتهمون به من أحد؟” قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرًا فتغيَّظ عليه، فقال: “علامَ يَقتُل أحدُكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بَرَّكْتَ، ثم قال: اغتسلْ له، فغسل وجهه، ويديه، ومِرْفَقَيْهِ، ورُكْبَتَيْهِ، وأطراف رِجْليه، وداخلةَ إزاره في قدح، ثم يصب ذلك الماء عليه رجل من خلفه، على رأسه وظهره، ثم يَكْفَأُ القدح، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس” (الحديث أخرجه أحمد في: المسند 3/486ـ487، وابن ماجه في: السنن: كتاب الطب: باب العين 2/1160 رقم 3509، كلاهما من حديث سهل واللفظ لأحمد).

يقول ابن القيم:
“هذه الكيفية لا ينتفع بها مَن أنكرها، ولا مَن سَخِر منها، ولا مَن شك فيها أو فعلها مُجَرِّبًا غير مُعتَقِد، وإذا كان في الطبيعة خَوَاصٌّ لا يَعرِف الأطباء عِلَلَها، بل هي عندهم خارجة عن القياس، وإنما تفعل بالخاصية، فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية؟ هذا مع أن في المُعالَجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سمِّ الحية يُؤخَذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغَضَبِيَّة تُوضَع اليد على بدن الغضبان فتسكن، فكأن أثر تلك العين كشعلة نار وَقَعَت على جَسَد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة، ثم لَمَّا كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة نفوذها فيها، ولا شيء أَرَقَّ من المَغَابِن فكان في غسلها إبطال لعملها، ولاسيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصًا وفيه أيضًا وصول أَثَرُ الغسل إلى القلب مِن أَرَقِّ المواضع، وأسرعها نفاذًا، فتنطفئ تلك التي أثارتها العين بهذا الماء” (انظر: بدائع الفوائد لابن القيم 2/245).

وقال ابن حجر:
هذا الغسل ينفع بعد استحكام النظرة، فأَمَّا عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه في قصة سهل بن حنيف المذكورة كما مضى: “ألا برَّكت عليه”، وفي رواية ابن ماجه: “فليدع بالبركة” (انظر: فتح الباري 10/215).