منع كثير من الفقهاء صلاة المفترض خلف المتنفل ، كما منعوا صلاة المفترض خلف من يصلي فرضا آخر ، وذهب الشافعية وغيرهم إلى جواز ذلك كله وهو الراجح، فلا مانع من صلاة الفريضة خلف النافلة كالعشاء خلف التراويح ، ولا مانع من صلاة فريضة خلف أخرى كصلاة الظهر وراء العصر حتى لو كانت إحداهما أطول أو أقصر من الأخرى كالمغرب خلف العشاء ، أو العشاء خلف سنة العشاء ، فإذا كانت صلاة المأموم أطول أتمها بعد سلام الإمام ، وإن كانت صلاته أقصر نوى مفارقة إمامه عند تمام صلاته .  وعليه فما نوى صلاة المغرب مثلا، وانفصل عن الإمام في صلاة العشاء بعد ثلاث ركعات بنية المفارقة، ثم دخل معه في الركعة الباقة بنية العشاء فصلاته صحيحة.

فعن جابر قال { كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤمنا , وقال مرة ثم يرجع فيصلي بقومه , فأخر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة قال مرة : الصلاة وقال مرة : العشاء , فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى فقيل : نافقت يا فلان ؟ قال ما نافقت , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن معاذا يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله وإنما نحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا وإنه جاء يؤمنا فقرأ سورة البقرة فقال يا معاذ , أفتان أنت ؟ أفتان أنت ؟ اقرأ بكذا , وكذا , قال أبو الزبير بسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى فذكرنا لعمرو فقال أراه فذكره } . رواه البخاري ومسلم

قال العراقي في طرح التثريب معلقا على هذا الحديث :-

في هذا الحديث حجة للشافعي وأحمد أنه تصح صلاة المفترض خلف المتنفل كما تصح صلاة المتنفل خلف المفترض ; لأن معاذا كان قد سقط فرضه بصلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته بقومه نافلة وهم مفترضون وقد ورد التصريح بذلك في رواية الشافعي والبيهقي { هي له تطوع ولهم مكتوبة العشاء } قال الشافعي في الأم : وهذه الزيادة صحيحة , وكذا في مسند الشافعي وصححها البيهقي أيضا وغيره وخالف في ذلك ربيعة ومالك وأبو حنيفة فقالوا : لا تصح صلاة المفترض خلف المتنفل لقوله صلى الله عليه وسلم { إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه } . وأجاب عنه القائلون بالصحة : بأن المراد الاختلاف في الأفعال الظاهرة لا في النيات فإن ذلك لا يختلف به ترتيب الصلاة وأيضا إن النبي صلى الله عليه وسلم بين مراد الحديث بقوله في بقيته { فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } . فهذا المراد بقوله { لا تختلفوا عليه } ومع هذا فقد نسخ بعض وجوه المخالفة المذكورة في هذا الحديث { بصلاته صلى الله عليه وسلم في مرض موته جالسا والناس وراءه قيام }

وقال الإمام النووي مبينا حكم المذاهب في اختلاف نية المأموم عن الإمام :-

مذهبنا- نحن الشافعية – : أنه تصح صلاة النفل خلف الفرض , والفرض خلف النفل , وتصح صلاة فريضة خلف فريضة أخرى توافقها في العدد ، كظهر خلف عصر , وتصح فريضة خلف فريضة أقصر منها , وكل هذا جائز بلا خلاف عندنا – نحن الشافعية – .

ثم إذا صلى الظهر خلف الصبح ، وسلم الإمام قام المأموم لإتمام صلاته ، وحكمه كحكم المسبوق , ويتابع الإمام في القنوت , ولو أراد مفارقته عند اشتغاله بالقنوت جاز.

ولو صلى الظهر خلف المغرب جاز باتفاق- يقصد اتفاق الشافعية – , ويتخير إذا جلس الإمام في التشهد الأخير بين مفارقته لإتمام ما عليه وبين الاستمرار معه حتى يسلم الإمام ثم يقوم المأموم إلى ركعته كما قلنا في القنوت , والاستمرار أفضل .

وإن كان عدد ركعات المأموم أقل كمن صلى الصبح خلف رباعية أو خلف المغرب أو صلى المغرب خلف رباعية ففيه قولان في المذهب ( أصحهما ) وبه قطع العراقيون جوازه كعكسه . ( والثاني ) : بطلانه ; لأنه يدخل في الصلاة بنية مفارقة الإمام .

فإذا قلنا بالمذهب : وهو صحة الاقتداء ففرغت صلاة المأموم , وقام الإمام إلى ما بقي عليه , فالمأموم بالخيار إن شاء فارقه وسلم , وإن شاء انتظره ليسلم معه , والأفضل انتظاره , وإن أمكنه أن يقنت معه في الثانية بأن وقف الإمام يسيرا قنت , وإلا فلا , وله أن يخرج عن متابعته ليقنت .

وإذا صلى المغرب خلف الظهر , وقام الإمام إلى الرابعة ; لم يجز للمأموم متابعته , بل يفارقه ويتشهد , وهل له أن يطول التشهد وينتظره ؟ فيه وجهان : حكاهما إمام الحرمين وآخرون . ( أحدهما ) : له ذلك كما قلنا فيمن صلى الصبح خلف الظهر ( والثاني ) : قال إمام الحرمين , وهو المذهب : لا يجوز ; لأنه يحدث تشهدا وجلوسا لم يفعله الإمام .

ولو صلى العشاء خلف التراويح جاز , فإذا سلم الإمام قام إلى ركعتيه الباقيتين , والأولى أن يتمها منفردا , فلو قام الإمام إلى أخريين من التراويح فنوى الاقتداء به ثانيا في ركعتيه ففي جوازه القولان فيمن أحرم منفردا ثم نوى الاقتداء , الأصح : الصحة .

هذا كله إذا اتفقت الصلاتان في الأفعال الظاهرة , فلو اختلفا بأن اقتدى من يصلي كسوفا أو جنازة بمن يصلي ظهرا أو غيرها أو عكسه فقولان ( أصحهما ) وبه قطع العراقيون : لا تصح لتعذر المتابعة ، والثاني : يجوز , وهو قول القفال لإمكان المتابعة في البعض .

فعلى هذا إذا صلى الظهر خلف الجنازة لا يتابعه في التكبيرات والأذكار بينها بل إذا كبر الإمام الثانية تخير المأموم إن شاء أخرج نفسه من المتابعة ، وإن شاء انتظر سلام الإمام .

وإذا اقتدى من يصلي الظهر بمصلي الكسوف تابعه في الركوع الأول , ثم إن شاء رفع رأسه معه وفارقه , وإن شاء انتظره في الركوع ، قال إمام الحرمين وغيره : وإنما انتظره في الركوع ليعود الإمام إليه ويعتدل معه عن ركوعه الثاني , ولا ينتظره بعد الرفع ; لما فيه من تطويل الركن القصير .

قال البغوي : ولو أدركه في الركوع الثاني من الكسوف تابعه فيه وصلى معه تلك الركعة ويركع معه الركوع الأول من الثانية ثم يخرج عن متابعته .

قال : وإذا أدركه في الركوع الثاني من إحدى الركعتين كان مدركا للركعة ; لأنه ركوع محسوب للإمام .

أما إذا صلى الظهر خلف العيد أو الاستسقاء فطريقان ( أحدهما ) : أنه كصلاته خلف الكسوف ; لما فيهما من زيادات التكبيرات ( وأصحهما ) وبه قطع المتولي وغيره : تصح قطعا لاتفاقهما في الأفعال الظاهرة , بخلاف الجنازة فإن تكبيراتها أركان , فهي كاختلاف الأفعال فإذا قلنا بالصحة فلا يكبر مع الإمام التكبيرات الزائدة ; لأنها ليست من صلاة المأموم ولا يخل تركها بالمتابعة , فإن كبرها لم تبطل صلاته ; لأن الأذكار لا تبطل الصلاة .

ولو صلى العيد خلف مصلي الصبح المقضية جاز , ويكبر التكبيرات الزائدة .

ثم ذكر الإمام النووي مذاهب سائر العلماء في المسألة فقال :-

ذكرنا أن مذهبنا : جواز صلاة المتنفل والمفترض خلف متنفل ومفترض في فرض آخر , وحكاه ابن المنذر عن طاوس وعطاء والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي ثور وسليمان بن حرب , قال : وبه أقول , وهو مذهب داود الظاهري .

وقالت طائفة : لا يجوز نفل خلف فرض , ولا فرض خلف نفل , ولا خلف فرض آخر . قاله الحسن البصري والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو قلابة , وهو رواية عن مالك .

وقال الثوري وأبو حنيفة : لا يجوز الفرض خلف نفل , آخر ولا فرض آخر , ويجوز النفل خلف فرض وروي عن مالك مثله .

ثم ذكر الإمام النووي ما يستدل به من يمنعون اختلاف نية الإمام عن المأموم فقال :-

واحتج لمن منع بقوله صلى الله عليه وسلم { إنما جعل الإمام ليؤتم به } رواه البخاري ومسلم من طرق .

واحتج المجيزون بحديث جابر { أن معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة } رواه البخاري ومسلم , هذا لفظ مسلم . وعن جابر قال { كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يطلع إلى قومه فيصليها لهم , هي له تطوع , ولهم مكتوبة العشاء } حديث صحيح رواه بهذا اللفظ الشافعي في الأم ومسنده . ثم قال : هذا حديث ثابت لا أعلم حديثا يروى من طريق واحد أثبت من هذا , ولا أوثق- يعني رجال- .

قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار : وكذلك رواه بهذه الزيادة أبو عاصم النبيل وعبد الرزاق عن ابن جريج كرواية شيخ الشافعي عن ابن جريج بهذه الزيادة , وزيادة الثقة مقبولة . قال : والأصل أن ما كان موصولا بالحديث فهو منه , لا سيما إذا روي من وجهين : إلا أن تقوم دلالة على التمييز , قال : والظاهر أن قوله : هي له تطوع , ولهم مكتوبة من قول جابر , وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالله وأخشى له من أن يقولوا مثل هذا إلا بعلم وحين حكى الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعل معاذ لم ينكر عليه إلا التطويل.

ثم ذكر اعتراض العلماء على دلالة حديث معاذ فقال :-

فإن قالوا : لعل معاذا كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة وبقومه فريضة فالجواب من أوجه : –

( أحدها ) : أن هذا مخالف لصريح الرواية .

( الثاني ) : الزيادة التي ذكرناها هي له تطوع , ولهم مكتوبة العشاء , صريح في الفريضة , ولا يجوز حمله على تطوع .

( الثالث ) : جواب الشافعي والخطابي وأصحابنا وخلائق من العلماء : أنه لا يجوز أن يظن بمعاذ مع كمال فقهه وعلو مرتبته أن يترك فعل فريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده , والجمع الكثير المشتمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كبار المهاجرين والأنصار , ويؤديها في موضع آخر ويستبدل بها نافلة .

قال الشافعي : كيف يظن أن معاذا يجعل صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لعل صلاة واحدة معه أحب إليه من كل صلاة صلاها في عمره ليست معه , وفي الجمع الكثير – نافلة ؟ .

( الرابع ) : جواب الخطابي وغيره , ولا يجوز أن يظن بمعاذ أنه يشتغل بعد إقامة الصلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بنافلة مع قوله صلى الله عليه وسلم { إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة } وعن جابر رضي الله عنه قال { أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع وذكر الحديث إلى أن قال : فنودي بالصلاة فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بطائفة ركعتين ثم تأخروا , وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان } رواه البخاري ومسلم .

وعن أبي بكرة قال : { صلى النبي صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى بهم ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا معه فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين } رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن .

واستدل الشافعي أيضا بالقياس على صلاة المتم خلف القاصر , وأما الجواب عن حديث { إنما جعل الإمام ليؤتم به } فهو أن المراد ليؤتم به في الأفعال لا في النية ; ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { إنما جعل الإمام ليؤتم به , فإذا كبر فكبروا , وإذا سجد فاسجدوا } إلى آخره .