إن الإسلام لا يكره التجارة، فإنها وسيلة من وسائل الكسب المشروع، حتى أن القرآن يطلق عليها وصفًا جميلاً، يقول: ( … يبتغون من فضل الله) (المزمل: 20). فسمى طلب الرزق عن طريق التجارة ابتغاء من فضل الله . ويقول أيضًا: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) (البقرة: 198). وهذه الآية نزلت في موسم الحج، أي حتى في أثناء الحج يجوز للإنسان أن يبيع ويشتري، وقد كان المسلمون يتحرجون من ذلك قبل نزول الآية، ولكن هذه الآية رفعت عنهم الحرج، وأباحت لهم التجارة في هذا الموسم العظيم.

ويقول تعالى في شأن صلاة الجمعة: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) (الجمعة: 10). يقول سيدنا عمر: ” ليس هناك مكان أحب أن يأتيني الموت فيه بعد الجهاد في سبيل الله، إلا أن أكون في سوق أبيع وأشتري من أجل عيالي ” وأخذ هذا من قول الله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض بيتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله). (المزمل: 20). فالتجارة ليست منكرة ولا مكروهة في الدين.

لقد امتن الله على قريش أن كانت لهم تجارة في الشتاء والصيف يرتحلون من أجلها إلى الشام واليمن . يقول تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش: 1-4). وقال تعالى: (أولم نمكن لهم حرمًا آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء). (القصص: 57).

وقد كان من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – تجار معروفون، مثل عبد الرحمن بن عوف، الذي هاجر من مكة إلى المدينة ولم يكن معه شيء من مال أو متاع، فآخى النبي – صلى الله عليه وسلم – بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد: يا أخي إني من أكثر الناس أموالاً فتعال أشاطرك مالي، وعندي زوجتان أنظر إلى أوقعهما في قلبك أطلقها لك، فإذا استوفت عدتها تزوجتها، وعندي داران، تسكن إحداهما وأنا أسكن الأخرى، هذا الإيثار العظيم من سعد بن الربيع قابله عفاف وترفع من عبد الرحمن ابن عوف قال له: يا أخي بارك الله لك في مالك وفي أهلك وفي دارك، إنما أنا امرؤ تاجر، فدلوني على السوق . فدلوه على السوق فباع واشترى وعمل بالتجارة حتى غلب اليهود فيها وجمع ثروة ضخمة، حتى أنه حينما مات صولحت إحدى نسائه – وكن أربع نسوة – على ربع الثمن فكانت نصيبها ثمانين ألف دينار . . . أي أن هذا المبلغ كان يساوي 32/1 من التركة، ولا ننس القدرة الشرائية للدينار في ذلك الوقت . . وكل هذا من التجارة . . ولعلنا نعلم أن عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة . . فلو كان في التجارة حرج وإثم ما كان عبد الرحمن بن عوف من المبشرين فالتجارة إذن لا شيء فيها.

إلا أن التجارة ينبغي أن يكون الإنسان فيها على حذر، لأن فيها أشياء إذا قارفها ولم يتجنبها يمكن أن تجره إلى سخط الله وإلى نار الجحيم . . والعياذ بالله.

ولهذا جاء في الحديث: ” إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى الله وبر وصدق ” (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح) .فالبر والصدق والتقي منجاة للتاجر من النار يوم القيامة . وقد جاء في حديث آخر: ” ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة . وذكر الرسول – صلى الله عليه وسلم – منهم: ” المنفق سلعته بالحلف الكاذب ” (رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي ذر) .

وقد جاء في حديث آخر عن التجار: ” إنهم يحدثون فيكذبون، ويحلفون فيأثمون ” (رواه أحمد بإسناد جيد والحاكم، واللفظ له، قال: صحيح الإسناد من حديث عبد الرحمن بن شبل) . وجاء في حديث آخر أنه: ” جعل الله بضاعته يبيع بيمينه، ويشتري بيمينه ” (رواه الطبراني من حديث سلمان قال المنذري: ورواته يحتج بهم في الصحيح) . فهذا الذي يتاجر باسم الله، ولا يتورع أن يجعله بضاعة يحلف به كاذبًا ويغلظ الإيمان في كل بيع وفي كل شراء . . . يرتكب إثمًا عظيمًا، ولا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا ينال شيئًا من رحمته تعالى.

إن اسم الله ينبغي أن يجل ويقدس ولا يبتذل (ولا تجعلوا الله عرضه لأيمانكم) (البقرة: 224) . فما بالك إذا استعمله التاجر في الحلف الكاذب ؟ وقصده من ذلك ترويج بضاعته ولو بالغش والخداع والباطل . ..
هذه آفة التجارة . أن لا يبالي التاجر إلا بالكسب حلالاً كان أم حرامًا . . فإن كان كذلك اندرج تحت الحديث الذي ذكرناه آنفًا، فكان من الفجار يوم القيامة.

أما التاجر الذي يستحق مرضاة الله، وينجو من الآفات التي يقع فيها معظم التجار، فهو التاجر الذي تتوفر فيه هذه الشروط.
أولا: أن يتاجر في المباح، ولا يتاجر فيما يحرم شرعًا:
فالأشياء التي حرمها الإسلام، كالخمر والخنزير، لا يصح للتاجر المسلم أن يتاجر بشيء من ذلك . . حتى ولو باعها لغير مسلم، فالنبي – عليه الصلاة والسلام – لعن في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها وبائعها وآكل ثمنها . . فكل من شارك فيها بجهد ما فهو ملعون على لسان محمد – صلى الله عليه وسلم -.

وقد جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعه قربة مملوءة خمرًا ليهديها إلى النبي، فقال له عليه الصلاة والسلام: ” إن الله قد حرم الخمر ” قال له: إذن أبيعها. قال: ” إن الذي حرم شربها حرم بيعها ” . قال: إذن أكارم بها اليهود – أي يهديها لهم مجاملة – فقال: إن الذي حرم بيعها وشربها حرم أن تكرم بها اليهود ” . قال: فماذا أصنع بها ؟ قال: ” اذهب فشنها على البطحاء ” (رواه الحميدي في مسنده) . أي صبها وأهرق ما فيها على الطريق.

ومن هنا نعلم بأن صناعة الخمر، واستيرادها، وتصديرها، والتجارة فيها، وكل ما يتعلق بها فهو حرام، بل أكثر من ذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” من حبس العنب أيام القطاف ليبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة ” (رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الحافظ في بلوغ المرام).

ثانيًا: ألا يغش ولا يخون فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” من غش فليس منا ” (رواه مسلم وغيره . ومعظم رواياته: من غشنا، وقد روى هذا المتن عدد: منهم أبو هريرة، وابن عباس وابن مسعود).

ثالثًا: ألا يحتكر، لأن الاحتكار حرام . فالنبي يقول: ” لا يحتكر إلا خاطئ “. (رواه مسلم وأبو داود).

وهذا يتناول كل بضاعة أو سلعة يحتاج إليها المسلمون، من قوت أو غير قوت . ووصف المحتكر بأنه خاطئ ليس أمرًا هينًا، فالله سبحانه وصف فرعون وهامان وجنودهما بأنهم كانوا خاطئين: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). (القصص: 8).

رابعًا: ألا يحلف كاذبًا، بل يتجنب أن يحلف حتى ولو صادقًا بقدر الإمكان، وقد سمي النبي – صلى الله عليه وسلم – اليمين الكاذبة باليمين الغموس، أي أنها تغمس صاحبها بالإثم في الدنيا وبالنار في الآخرة، ولا ينظر الله إلى صاحبها يوم القيامة وهي تترك الديار بلاقع، وتخرب البيوت – والعياذ بالله.

خامسًا: ألا يغلي الأسعار على المسلمين، كأن تحدد الحكومة السعر، ويزيد التاجر على التسعيرة، أو يستغل حاجة المسلمين إلى السلعة فيرفع ثمنها عليهم، ليربح أرباحًا فاحشة أكثر مما يجوز.

وإذا رفعت الحكومة رواتب الموظفين بنسب معينة، لتواجه حالة الغلاء وموجة ارتفاع الأسعار ولكن التجار يستغلون ذلك ويزيدون الأسعار في مقابل تلك الزيادة في الرواتب بلا مبرر ولا سبب لرفع السعر سوى الجشع والرغبة في الإثراء السريع من غير طريقه الصحيح .

إن رفع الأسعار على المسلمين بهذه الطريقة يعتبر جريمة، لأنه يسبب ضيق الحياة على الناس، وكثير من الناس دخلهم ضئيل وأحوالهم المعيشية سيئة، ولهذا روى معقل بن يسار عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو في مرض موته، حيث قال للناس من حوله: أجلسوني حتى أحدثكم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأجلسوه فقال: سمعت رسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة ” فقيل له: أسمعت هذا من النبي – صلى الله عليه وسلم – ؟ قال: غير مرة ولا مرتين (رواه أحمد والطبراني والحاكم وكلهم عن زيد بن مرة عن الحسم عن معقل) أي أنه – عليه الصلاة والسلام – كرر ذلك مرارًا لعظم خطر هذا الأمر ،ليقنع التجار بالكسب المعقول، لماذا يكسبون مائة بالمائة ؟ ألا يكفي ربح عشرين بالمائة أو خمسة عشر ؟ لم الجشع ولم الطمع ؟ ولم الربح الفاحش ؟ ألا يكون ذلك على حساب المستهلك المسكين . . اربح قليلاً وبع كثيرًا أفضل . أما أن تحاول أن تجمع الدنيا بين يديك وتظن أن كل ما تجمعه حلال، فهذا خطأ . إن الإسلام جاء بالعدل، فإذا لم يحدد نسبة الربح، فإنه ينبغي مراعاة روح العدل التي جاء بها ودعا إليها . والعدل أمر فطري.

سادسًا: ينبغي أن يحرص التاجر الذي يريد إرضاء ربه على أن يزكي ماله، فيقوم بضاعته كل عام ويزكيها بنسبة ربع العشر أي 5و2%.
ويدخل في ذلك الأموال السائلة، والسلع التجارية التي عرفت قيمتها، أما الأشياء الثابتة كالمباني والموازين والمكاتب وما إلى ذلك كالثلاجات التي تحفظ فيها بعض السلع، هذه الأشياء لا تدخل في حساب الزكاة . وإنما الذي يدخل فيها النقود والبضائع المتداولة المعدة للبيع – كما قلنا – والتي تسمى ” عروض التجارة ” وكذلك الديون المرجوة له .

أما الديون التي عليه فإنه يقتطعها ويحسبها من المبلغ الذي سوف يزكيه، والباقي يدفع عنه الزكاة بالنسبة التي ذكرتها آنفًا وهي تعادل خمسة وعشرين ريالاً في كل ألف ريال، و25 ألفًا في كل مليون . . . ولا يستكثر بعض الناس من أصحاب الملايين هذا المبلغ المفروض في أموالهم، ولا يتركوا للشيطان مجالاً للوسوسة وللأمر بالفحشاء، وللتخويف من الفقر (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً) (البقرة: 268)، (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين). (سبأ: 39).

سابعًا: يجب على التاجر المسلم ألا تشغله تجارته عن واجباته الدينية، عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن حقوق الأخوة في الإسلام، وحقوق الجيران.

وهذا التذكير يوجه للتجار خاصة، لأن الغالب أن يستغرق التاجر في المادة، ويعيش في دوامة الأرقام والحسابات، ولا يفكر صباحه ومساءه إلا في الكسب والمرابح، وما دخل خزانته وما خرج منها . . وهذه هي الخطورة ومن هنا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء ” (رواه الترمذي وقال: حديث حسن).

هذا التاجر الذي يلتزم الأمانة والصدق في بيعه وفي شرائه، وفي سائر معاملاته، يكون يوم القيامه مع النبيين والصديقين والشهداء .

وقد ورد في حديث آخر: ” الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا ” (رواه الأصبهاني والبيهقي من حديث معاذ بن جبل وأشار المنذري إلى ضعفه) . . هذه صفات التجار الذين يستحقون أن يكونوا في رفقة النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة، وحسن أولئك رفيقا، إنهم لا تلهيهم ولا تشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، كما وصف الله المؤمنين من عباده بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب. (النور: 37، 38).

فالتاجر الذي لا تلهيه تجارته عن واجباته الدينية، الذي يزكي ماله، والذي يلتزم حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يكون فيه الجشع الذي يدفعه إلى احتكار السلعة أو إغلاء الأسعار على المسلمين، أو الغش أو الحلف كاذبًا، أو التعامل بييع الحرام . . التاجر الذي يلتزم حدود الله ولا يخرج عنها يكون يوم القيامة مع الصديقين والشهداء.

وكل تاجر يستطيع أن يكون كذلك، ولكن للأسف ” قليل ما هم ” فإن الإنسان قلما يتذكر واجباته الدينية، ويقنع بالحلال، ولا يتطلع إلى الحرام والإثراء على حساب الآخرين.