لا حرج في دفن الميت ليلا، وقد تواترت الأحاديث التي تدل على ذلك، والتوفيق بين هذه الأحاديث وبين ما جاء في الزجر عن الدفن ليلا يمكن توجيهه بأنه متى كان الدفن ليلاً لا يفوت به شيء من حقوق الميت والصلاة عليه فلا بأس به وعليه تدل أحاديث الجواز، وإن كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه نهي عن ذلك وعليه يدل الزجر.

يقول الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:

قال أكثر أهل العلم يجوز دفن الميت ليلاً ولا كراهة في ذلك ولكن الدفن في النهار أفضل.

قال الحافظ ابن عبد البر: [وفي هذا الحديث إباحة الدفن بالليل وعلى إجازته أكثر العلماء وجماعة الفقهاء لأن الليل ليس فيه وقت تكره فيه الصلاة] الاستذكار 8/290.

وقال الإمام البخاري في صحيحه : [باب الدفن بالليل ودفن أبي بكر رضي الله عنه ليلاً]. ثم روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على رجل بعدما دفن بليلة . قام هو وأصحابه وكان سأل عنه فقال : من هذا ؟ فقالوا : فلان دفن البارحة فصلوا عليه) صحيح البخاري مع الفتح 3/451 .

ومما يدل على جواز الدفن بالليل:

-ما جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلاً فقال: (متى دفن هذا؟ فقالوا: البارحة. قال : أفلا آذنتموني. قالوا: دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك . فصلى عليه) رواه البخاري.

-وعن جابر قال: (رأى ناسٌ ناراً في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم. وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر). رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم كما قال الإمام النووي. المجموع 5/302 .

-وروى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر الصديق لم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح ) صحيح البخاري 3/297 . وهذا هو الحديث الذي ذكره الإمام البخاري معلقاً في ترجمة الباب السابق.

-وأما ما جاء عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض وكفن في غير طائل وقبر ليلاً فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم .

فقد أجاب عنه العلماء بأجوبة قوية منها: ما قاله الإمام النووي: [وأما النهي عن القبر ليلاً حتى يصلي عليه فقيل سببه أن الدفن نهاراً يحضره كثيرون من الناس ويصلون عليه ولا يحضره في الليل إلا أفراد. وقيل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن فلا يبين في الليل ويؤيده أول الحديث وآخره …] شرح النووي على صحيح مسلم 3/12 .

وقال العلامة ابن القيم : [قال الإمام أحمد: لا بأس بذلك – أي الدفن ليلاً – وقال : أبو بكر دفن ليلاً وعليٌ دفن فاطمة ليلاً وحديث عائشة: (سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي صلى الله عليه وسلم . وممن دفن ليلاً عثمان وعائشة وابن مسعود ورخص فيه عقبة بن عامر وابن المسيب وعطاء والثوري والشافعي واسحاق وكرهه الحسن وأحمد في إحدى الروايتين . وقد روى مسلم في صحيحه: … فذكر حديث جابر السابق] .

ثم قال ابن القيم: [والآثار في جواز الدفن بالليل أكثر. وفي الترمذي من حديث الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً فأسرج له بسراج فأخذه من قبل القبلة وقال: رحمك الله إن كنت لأواهاً تلاءً القرآن وكبر عليه أربعاً ). قال : وفي الباب عن جابر ويزيد بن ثابت وهو أخو زيد بن ثابت أكبر منه . قال : وحديث ابن عباس حديث حسن.

قال: ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبر ذي البجادين ليلاً .

وفي صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن قبر رجل، فقال: من هذا؟ قالوا: فلان، دفن البارحة فصلى عليه).

وهذه الآثار أكثر واشهر من حديث مسلم. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (مات إنسان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده فمات بالليل فدفنوه ليلاً فلما أصبح أخبروه. فقال: ما منعكم أن تعلموني ؟ فقالوا : كان الليل وكرهنا – كانت ظلمة – أن نشق عليك فأتى قبره فصلى عليه).

قيل: وحديث النهي محمول على النزاهة والتأديب.

والذي ينبغي أن يقال في ذلك – والله أعلم – : أنه متى كان الدفن ليلاً لا يفوت به شيء من حقوق الميت والصلاة عليه فلا بأس به وعليه تدل أحاديث الجواز وإن كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه نهي عن ذلك وعليه يدل الزجر وبالله التوفيق] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 8/309 .

وقال الحافظ ابن حجر في الجواب عن حديث جابر: [بأن النهي عن الدفن ليلاً كان بسبب تحسين الكفن وقوله :(حتى يصلي عليه) مضبوط بكسر اللام أي النبي صلى الله عليه وسلم فهذا سبب آخر يقتضي أنه إن رجي بتأخير الميت إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب تأخيره وإلا فلا، وبه جزم الطحاوي، واستدل المُصَنْف – أي الإمام البخاري – للجواز بما ذكره من حديث ابن عباس ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم دفنهم إياه بالليل بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره وأيد ذلك بما صنع الصحابة بأبي بكر وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز] فتح الباري 3/451.