في القرن التاسع عشر الميلادي، الذي ظهرت فيه نزعة الثورة على الكنيسة والأفكار والآراء الدِّينية السائدة، برز جماعة منهم “لامارك” الفرنسي المتوفَّى سنة 1829م “واغوست ايرينوس” المتوفَّى سنة 1927م ” وتشارلس دارون” الإنجليزي المتوفَّى سنة 1882م، والذي أثار ضجَّة في العالم عندما ظهر كتابة ” أصل الأنواع” سنة 1859 م، وكتابه ” تسلسل الأنواع” سنة 1871م، وهو يشتمل على ثلاث مسائل:

أ ـ أن طريق حدوث تنوُّعات العالم هو النشوء، أي أن أجزاء الأثير تكون منها السديم ثم الشمس، ثم انفصلت عنه الكواكب، ومنه أرضنا، ثم تكونت العناصر ثم المعادن ثم المكوِّن الأول الحي “البروتوبلازم” الذي أخذ في التوالد والترقِّي حتَّى بلغ أدْني نبات أو حيوان، ولم يزل هذان يترقَّيَان بالنواميس الأربعة “التباينات” الوراثة، تنازع البقاء، الانتخاب الطبيعي “ويُشتق من الأنواع أنواع حتى تكوَّنت جميع الأنواع التي نراها اليوم.

ب ـ أن الإنسان ما هو إلا حيوان من جملة الحيوانات، حادث بطريق النشوء والارتقاء، وأنه لمشابهته القرد لا يمنع أن يكون قد اشتُقَّ هو وإيَّاه من أصل واحد.

ج ـ أن الحياة وعقل الإنسان ما هما إلا ظاهرتان من ظواهر تفاعل أجزاء المادة، وإن يكن أصل المادة خاليًا من الحياة والإدراك، وأن عقْل الإنسان لا يخْتلف عن عقول الحيوانات إلا بالكَمّ، ولا يخالفها في الذات والحقيقة.

إن هذه الدعاوى لم يستطع “دارون” ومَن ساروا في ركابه أن يُبَرهِنوا عليها بالأدلة الكافية، فهي ما تزال افتراضاتٍ قابلةً للصدق والكذب، وأكثر اعتمادهم في ذلك على تطوير نوع من الزهور والنباتات، غيَّروا شكلها ولم يغيروا جوهرها، ولم ينجحوا في شيء من عالم الحيوان، ولكنَّهم قالوا: يجوز أن يكون الإنسان متطوِّرًا عن حيوان قبله وهو القرد.

ويشرح “لامارك” ذلك بقوله” إن الكائن الحي يشعر من تغيُّر الأحوال عليه بضرورة حدوث عُضو جديد له، فيفعل للحصول على ذلك، فيَحْدُثُ في آحاده يسيرًا يسيرًا، كالزَّرافة، فقد كانت في زعمه ـ كسائر الحيوانات ـ ذاتَ عُنُق قصير، ولكنَّها لمَّا احتاجَت إلى أكْل الأشجار العالية صارت تتفعل لذلك وتَشْرئِبُّ؛ لتنال الورَق العالي، فطالت عُنُقُها يسيرًا يسيرًا، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، فالحاجة هي التي تُنشئ الأعضاء الجديدة عند لامارك ولكن دارون يقول: إن الصُّدفة أو الاتِّفاق هو الذي يُنشئها. لقد قام جماعة من المفكِّرين بالرَّد على نظرية دارون فقال: “س. فان هو فنسفيلت” إن النتائج التي وصل إليها الباحثون في الأحياء المتحجرة لم تساعد على إقامة أي دليل على التسلسل أو التطور التدْريجي، بل ثبت على عكس ذلك أن الفروق الدقيقة بين صفوف الأجناس التي نعرفها بقيت على الدوام فاغِرةً ولم تتلاشَ أو تَقرُب من ذلك.

وقال ” جوستاف جوليه” الأستاذ في السوربون” إنَّ العَقَبات التي يَرْتَطِم بها مذهب النشوء والارْتقاء تنحصر في خمسة أمور:
أ ـ أن العوامل التي يقوم عليها هذا المذهب قد ظهر عَجْزها في تعليل أصل الأنواع.
ب ـ تبيَّن عدم كِفايتها لتعليل وجود الحشرات.
ج ـ تبيَّن عدم غِنائها في تفسير التحوُّلات الفُجائية المولِّدة لأنواع جديدة.
د ـ اتَّضح قُصورها عن تعْليل تولُّد طبائع الأنواع الجديدة وثُبوتها نِهائيًا، وقد ثَبَت أنها متى تولَّدت فيها بسرعة تَبْقَى ثابتةً لا تتغير.
هـ ـ ثَبَت عجْزُها عن تفسير عوامل التَّطور الذي تدخل فيه الكائنات فتُحوِّلها من حالة ساذجة إلى حالة مُركَّبة، وتدْفعها من النقْص إلى الكمال. هذه هي نظرية دارون الافتراضيَّة، وذلك بعض ما ردَّها به علماؤهم.

أما رأْي الدِّين فيها فيتَّضح مما يلي:
1 ـقولُهم إنَّ المخلوقات خلقت عشوائيا بغير تدْبير سابق وعلْم مُحكم يردُّه قول الله سبحانه (إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (سورة القمر :49)، وقوله: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون) (سورة الحجر:19).

قَوْلُهم إنَّ الإنسان ليْس له خَالِق، يردُّه قول الله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (سورة النحل:4)، وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (سورة ق :16)، وقوله: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذِينَ مِنْ دُونِهِ) (بسورة لقمان: 11)، وغير ذلك من الآيات الكثيرة.

3 ـقولهم إن البقاء للقوِى والكوارث هي سبب هلاك المخلوقات الضعيفة، مردود بأن الله يُهلك الأقوياء كما يُهلك الضعفاء (إنَّ الذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (سورة آل عمران:10) (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ) (سورة آل عمران:12).

4 ـادِّعاؤهم معرفةَ كيف نشأت الأحياء على الأرض، يَرُدُّه قَوْلُ اللهِ تَعَالَى (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) (سورة الكهف:51).

5 ـادِّعاؤهم أن الطيور والحشرات لا تَفهم، يردُّه قول الله سبحانه (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) (سورة النمل:16).

6 ـادِّعاؤهم أنَّ الطَّير أقل تطورًا من الثَّدْيِيَّات والإنسان، يردُّه قول الله تعالى (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْأَةَ أَخِيهِ) (سورة الأنعام:38).

7 ـ زعْمُهم أنَّ الْإِنْسان مُتَطوِّر عن كائنات حيَّة سابقة، يردُّه قول الله تعالى (الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآنَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ . عَلَّمَهُ البَيَانَ) (سورة الرحمن:1-4)، وَقوله: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (سورة الرحمن :14)، وحديث
“إِنَّ الله خلق آدَمَ عَلَى صُورَتِه” رواه البخاري ومسلم.

8 ـادعاؤهم أن القرآن يُقرُّ نَظَرية التَّطوْر، كقوله تعالى: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (سورة نوح:14) مَرْدُود بأنَّ الأطْوار في الآية ليْست التطور الذي يزْعمون فالمعْني أن الإنسان خُلق على النَّحو الذي قال فيه ربُّ العزَّة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشْأَنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (سورة المؤمنون:12-14).

9 ـقَوْلهم إن الموت يأتي صُدْفة للضَّعيف ويَترك القوِيَّ ليَتَطَوَّر، يردُّه قول الله تعالى(خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك:2)، وَقَوْله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(سورة البقرة: 28).

هذا بعْض ما تُفَنَّد بِهِ نظرية دارون، ويمكن الرجوع إلى مجلة الأزهر ” المجلد الثاني ص749″، ودراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصرة، ومجلة الهداية التي تصدر في البحْرين عدد مارس1993، ومراجع أخرى.