الخلع مشروع بالقرآن والسنة والإجماع إذا توافرت الشروط الداعية إليه، والفقهاء متفقون على أن على الزوجة أن ترد ما دفع الزوج إليها من المهر، لكنهم مختلفون على أن يأخذ الزوج زيادة على ما دفعه للزوجة، والراجح أنه لا يجوز له أخذ الزيادة.

يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: ـ

يريد الإسلام للحياة الزوجية أن تبقى وتدوم ما بقيت دعائمها الأساسية قائمة، وهي السكون والمودة والرحمة، فإن فقدت فلا معنى لفرض الصحبة بالإكراه.

ولهذا أعطي للرجل حق إنهاء الحياة الزوجية بالطلاق، وأعطي في مقابله للمرأة حق إنهائها بالخلع، وذلك عند تعذر الوفاق في كلا الحالين . وفي هذا قيل : إن لم يكن وفاق ففراق . وهنا يؤكد القرآن أن يكون الفراق بالمعروف، إذا لم تمكن المعاشرة بالمعروف .ويحذر من المضارة والعضل الذي ينافي أخلاقية الإنسان المسلم، والذي قد يدفع إليه الغضب وحب الانتقام أو حب المال . يقول تعالى : ” وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (البقرة : 231)، ويقول : ” ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ” (الطلاق : 6) ويقول : ” وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ “. (النساء : 19).

وقد ثبتت مشروعية الخلع بالقرآن والسنة والإجماع.

فأما القرآن فقد قال تعالى في سورة البقرة : ” وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ”. (البقرة : 229).

وأما السنة فقد جاء فيها عدة أحاديث صحاح في قضية امرأة ثابت بن قيس وغيرها . فقد قالت : يا رسول الله، ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام – تقصد كفر العشير – فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ” أتردين عليه حديقته ” ؟ – وكان قد أعطاها لها صداقًا – قالت : نعم . قال : ” اقبل الحديقة وطلقها تطليقة “. (الحديث رواه البخاري وغيره عن ابن عباس . وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في تكييف الخلع : أهو طلاق أم فسخ ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه فسخ وهو مذهب ابن عباس، وبعض الأحاديث يدل على أنه طلاق ).

وأما الإجماع فقد اتفقت المذاهب جميعها، والفقهاء كلهم على مشروعية الخلع.

يقول الحافظ ابن كثير في تفسير الآية (229) من سورة البقرة : (إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى : ” ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئَا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله … ” الآية ).

فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد ذكر ابن كثير هنا الحديث الذي رواه ابن جرير والترمذي وأبو داود عن ثوبان مرفوعًا : ” أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة “. (رواه أبو داود (2226) والترمذي (1187 ) وابن ماجة (2055) وأحمد والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2 / 200 وابن حبان كما في الموارد 1123).

قال ابن كثير : (ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف : إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية …. فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدمه ). (تفسير ابن كثير 1/ 272، 273 ط . دار إحياء التراث العربي، بيروت).

والذي يتتبع النصوص الواردة في القرآن والسنة، ويتتبع أقوال الفقهاء والشراح في فهمها والاستنباط منها، يتبين له ما يلي :

1 – أن الراجح بل الصحيح الذي تدل عليه النصوص : أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.

فالقرآن الكريم يربط الافتداء بما آتاه الزوج لا بأكثر منه حيث يقول : ” ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئَا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ” أي فيما افتدت به مما آتيتموهن.

بل نرى القرآن نهى عن ” العضل ” الذي عرف في الجاهلية، وهو إمساك المرأة ضرارًا لتفدي نفسها ببعض ما أخذت من زوجها، يقول تعالى : ” وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ “. (النساء : 19).

والسنة قد ورد فيها ما رواه النسائي وابن ماجة والبيهقي، أنه – صلى الله عليه وسلم – ” أمر ثابت بن قيس أن يأخذ من زوجته الكارهة حديقته – التي دفعها إليها مهرًا – ولا يزداد .

وفي حديث رواه الدارقطني بإسناد صحيح (كذا في منتقى الأخبار وشرحه : نيل الأوطار، وقال الحافظ في الفتح : رجال إسناده ثقات) : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها : ” أتردين عليه حديقته التي أعطاك ” ؟ قالت : نعم وزيادة . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : ” أما الزيادة فلا ولكن حديقته ” . قالت نعم . فأخذها له وخلى سبيلها.

وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن على أنه قال : ” لا يأخذ منها فوق ما أعطاها “.

وعن طاووس وعطاء والزهري مثله . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق . .

وعن ميمون بن مهران : من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرح بإحسان.

بل قال سعيد بن المسيب : ما أحب أن يأخذ منها ما أعطاها، ليدع لها شيئًا.

وأجاز مالك للرجل أن يأخذ أكثر مما أعطى قال : لكنه ليس من مكارم الأخلاق . وقد نسب هذا القول إلى الجمهور، وهي نسبة تحتاج إلى تحقيق . على أن العبرة بالدليل، ولا دليل على الجواز، إلا حديث ضعيف الإسناد، وليس فيه حجة، كما قال الشوكاني.

2- على أن الذين أجازوا الزيادة، إنما ذكروا ذلك فيما بذلته المرأة عن طيب نفس منها، لتخلص نفسها من سوء عشرة الزوج . ولهذا يدور البحث كله حول : هل يحل له أخذ الزيادة أم لا ؟ أما مطالبة المرأة بزيادة على ما أخذ، فهذا لم يذكروه قط، ولم يدر بخلد أحدهم، والأصل في أموال الناس الحرمة، ولا يحل لأحد مال أحد إلا بطيب نفس منه . فلا يكون الضغط على المرأة والضرار لها، لتفتدي نفسها بأكثر مما أخذت إلا لونًا من العضل والظلم الذي يحرمه الإسلام، وقد فاق عضل الجاهلية، لأنهم كانوا يعضلون النساء ليذهبوا ببعض ما آتوهن، وهؤلاء لم يكفهم كل ما آتوهن، فأرادوا الزيادة عليه !!.

3 – ثم إن العوض الذي يطلبه الزوج لافتداء المرأة، إنما يطلب منها هي لا من أب، ولا ولي، ولهذا قال القرآن : ” فلا جناح عليهما فيما افتدت به ” فهي التي تفتدي نفسها من مالها الذي في يدها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال لامرأة ثابت : ” أتردين عليه حديقته ” ؟ فالمرأة هي صاحبة الشأن، ولا يجوز بحال أن يطلب الزوج من وليها أن يدفع لها من ماله، ويعتبر ذلك حقًا له، إلا أن يتبرع متبرع إن شاء.

4 – على أن مفهوم الزيادة – لو افترضنا مبدأ قبولها لغة وعرفًا – إنما يعني إضافة شئ إلى الأصل لا يبلغ مثله في الغالب، فالمرء قد يعطي الثمن ويزيد البائع، ويرد القرض ويزيد المقرض، ولا يفهم من ذلك إلا إعطاء شئ لا يبلغ مثل الأصل . أما إعطاء مثل الأصل أضعافًا مضاعفة، فلا يدخل فيما نرى في مدلول كلمة ” الزيادة ” عند أحد ممن يفهم اللغة ويتذوقها.

فالواجب شرعًا أن يجبر الزوج على قبول ما دفع، فإن تبرع الولي بزيادة كما هو مقترح الحكم الذي يمثله في قضيتنا، وهي زيادة تصل إلى ضعف ما دفع من مهر، فلا مانع من قبول ما تبرع به إن طابت به نفسه.

وإذا كان الزواج عرفيًا، فليكن القضاء فيه عرفيًا مثله. طالما ليس هناك قاض يجبر الزوج المتعسف في استعمال حقه – نظرًا لعدم وجود عقد موثق معترف به لدى السلطات الشرعية – فالواجب أن يعقد مجلس – أو لجنة – من أهل العلم والدين الذين يوثق بفقههم ودينهم ويفصلوا في هذا الأمر، بحل عقدة الزواج، وخلع المرأة من هذا الزوج المضار، وإعطائه ما دفع زائدًا ما تبرع به الولي طيب النفس، ويكون حكمهم هذا بمثابة حكم المحكمة الرسمية، إذ لا يتصور أن تقف الشريعة سلبية عاجزة في مثل هذه القضية.