الحق المجمع عليه أن حياة الآخرة من أمور عالم الغيب, فما ورد فيها من النصوص القطعية عن الله ورسوله نؤمن به من غير بحث في كيفيته, ونؤمن مع ذلك أن عالم الغيب ليس كعالم الشهادة فلا نقيس حياة الآخرة على الحياة الدنيا في شيء، والعقل لا ينافي هذا لأنه يدلنا على أن الذي وهبنا هذه الحياة قادر على أن يهبنا بعد الموت حياة أخرى أرقى منها أو أدنى.

فيقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
ولع كثير من الذين يشتغلون بعلم الدين بالكلام في الغرائب, ولا أغرب من أمور عالم الغيب, واحتجوا عليه بالروايات حتى الضعيفة والموضوعة وأدخلوا فيه القياس على ما رووا, بل منهم من احتج فيه بالرؤى والأحلام حتى قالوا وكتبوا ما يحمل كثيرًا من الضعفاء على الشك في أصل الدين، ومن ذلك أن الأموات يأكلون في قبورهم ويشربون ويغشون النساء.

والحق المجمع عليه أن حياة الآخرة من أمور عالم الغيب, فما ورد فيها من النصوص القطعية عن الله ورسوله نؤمن به من غير بحث في كيفيته, ونؤمن مع ذلك أن عالم الغيب ليس كعالم الشهادة فلا نقيس حياة الآخرة على الحياة الدنيا في شيء.

والعقل لا ينافي هذا لأنه يدلنا على أن الذي وهبنا هذه الحياة قادر على أن يهبنا بعد الموت حياة أخرى أرقى منها أو أدنى, وقد اختلف المسلمون في حياة البرزخ فقال الأكثرون: إن الميت يحيا بعد الدفن لأجل السؤال, وأنه يعذب بعد الموت قبل البعث يوم القيامة, وعليه جمهور أهل السنة لأحاديث وردت في ذلك, ولكن هذه الحياة عندهم غيبية لا يقاس عليها.

ونقل صاحب (لوائح الأنوار البهية في شرح عقيدة الفرقة المرضية) عن الإمام ابن حزم في كتاب الملل والنحل: أن من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فقد أخطأ لأن الآيات تمنع من ذلك يعني قوله تعالى: [قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ](غافر:11), وقوله:[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ](البقرة:28) قال: ولو كان الميت يحيا في قبره لكان الله تعالى قد أماتنا ثلاثًا وأحيانا ثلاثًا, وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله آية لنبي من الأنبياء -ثم ذكر قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها- أي أن الآيات تجيء على خلاف الأصل, والأصل هنا أنه لا حياة بعد الحياة الدنيا إلا حياة الآخرة, وذكر في الاحتجاج قوله تعالى: [وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى](الزمر:42) أي يرسل روح الذي يموت إلى يوم القيامة فلا حياة له قبلها, ثم قال ابن حزم: ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة, ولو صح ذلك لقلنا به, وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح إلى القبور المنهال بن عمرو وليس بالقوي, تركه سعيد وغيره وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام على ما قد نقل, وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك، (قال) وهذا الذي قلناه هو الذي صح عن الصحابة, وذكر آثارًا عنهم تؤيد ما قال.

وقد أورد صاحب اللوائح ردًّا عليه لابن القيم قال: إن أراد ابن حزم بقوله:(من ظن أن الميت يحيا في قبره فقد أخطأ) الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتصرفه وتدبره ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال, والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص.

وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بأن تعاد الروح إليه إعادة غير المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ, وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله:(فتعاد روحه في جسده) في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وساق الحديث, وهو عند أحمد وأبي داود, ثم ذكر أن قوله فيه:(ثم تعاد روحه في جسده) لا يدل على حياة مستقرة.

ثم ذكر أن تعلق الروح بالبدن من أول التكوين إلى يوم القيامة خمسة أنواع ذكرها المؤلف وهذا نوع منها، أي وهو غيبي لا نعرف حقيقته، ثم ذكر أن جرح المنهال خطأ وذكر من وثقه, وأن أعظم ما قيل فيه أنه سُمع صوت غناء من بيته .

وأما حديث أهل القليب وقوله عليه الصلاة والسلام:(ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) فهو يدخل في الآيات, فقد قال قتادة رضي الله عنه: أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الحلبي في سيرته، أقول: المراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور.

ولا يعد أن يريد أن أرواحهم هي التي سمعت؛ فإنها هي التي تدرك وتعقل، فلا تتوقف صحة الحديث على رجوعها إلى الأجساد, ولكن هل يقاس على النبي غيره في مخاطبة الأرواح، والقائس لا يعرف حقيقة ما به القياس؟ أم يعطي الله لكل أحد يكلم الموتى من الآية في أسماعهم ما أعطى نبيه عليه الصلاة والسلام؟ كلا ، فعلم مما تقدم أن ما سمعتموه من أن الأموات أحياء غير صحيح ، بل هو تناقض صريح.