يقول فضيلة الشيخ محمود شلتوت – رحمه الله:

ليس في بلاد الإسلام من يجهل معنى الصوم الذي طلبه الله من المسلمين في هذا الشهر، وليس فيها من يجهل أن صومه ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائضه الأولى التي بني عليها. وقد عبر القرآن عن فرضيته “بمادة” لا تحتمل غير الإثبات والإيجاب والتحتيم، بمادة لم تعرف فيه لغير الصوم من أركان الإسلام. بمادة كان أكثر ما ورد التعبير بها في الدلالة على التحتم والثبوت لمقتضيات الذات الإلهية، أو لمقتضيات النظام الكوني الذي قدّره الله في سابق علمه للكائنات، ولا يعتريه في سنته تغيير ولا تبديل.

وإذا قرأت في الدلالة على تحتم تلك المقتضيات قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) الأنعام : 12، وقوله (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) المجادلة:21،

وقوله ( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا) التوبة: 51،

وقوله ( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ) المجادلة:22،

فإنك ترى القرآن لم يقف في شرع الصوم وطلبه من المؤمنين عند “المادة” المألوفة في طلب الشيء، أو الأمر به نحو ” فليصمه” أو نحو ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) المزمل :20،

أو نحو (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) آل عمران :97،

بل سما به إلى مادة “الكتب ” والكتابة التي عرفت عنه في مقام التعبير عن مقتضى الألوهية، أو مقتضى التقدير الإلهي في النظام الكوني الثابت المتقرر، ترى القرآن سما بالصوم إلى هذه المادة، ممهدًا له بالنداء الموقظ للشعور، وبوصف الإيمان الباعث على الامتثال، ومشيرًا في الأسلوب نفسه إلى أن الصوم تكليف الله العام لهؤلاء ولمن مضى من عبادة السابقين فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) البقرة :183، ثم حدد وقته، وفصّل أعذاره على نحو لم يوجد في غيره من الفرائض والأركان.

ومن هنا أجمع المسلمون من عهد التشريع على أن من أنكر فرضية الصوم أو أوَّلَ طلبه، أو حرَّف وضعه، أو ردَّه إلى مجرد الشوق إليه والرغبة فيه كان خارجًا عن ربقة الإسلام لا تجري عليه أحكامه، ولا يعد من أهله. وهذا هو حكم الله في الصوم وفي سائر ما ثبتت فرضيته أو حرمته بمصدر تشريعي قطعي في ثبوته عن الله، ودلالته على معناه، وتناقل جميع المؤمنين العلم به هكذا، جيلاً عن جيل، وطبقة عن طبقة.