اختلف الفقهاء الأقارب في دفع الزكاة إلى الأخ أو الأخت أوالعم أو العمة أو الخال أو الخالة ..إلخ، بين الجواز والمنع اختلافًا كثيرًا. فمن مجوِز للدفع إلى الجميع، ومن مانع للجميع أو للبعض دون البعض.
والذين منعوا اختلفوا أيضًا في الأساس الذي يبنون عليه حكم المنع.
فمنهم من نظر إلى الضم العملي للقريب إلى الأسرة، فما دام قد ضم إلى عياله أصبح حكمه حكم زوجته وولده، فلم يجز دفع الزكاة إليه.
ومنهم من نظر إلى إجبار الحاكم على النفقة، فما لم يصدر حكم قضائي يلزمه بنفقة قريبه، فله أن يعطيه من زكاته.
ومنهم من نظر إلى لزوم النفقة شرعاً؛ فمن كانت تلزم المزكي نفقته شرعًا لا يجوز له دفع الزكاة إليه، ومن لا تلزم نفقته يجوز. والقائلون بهذا أيضًا اختلفوا فيمن هو القريب الذي تلزم نفقته فلا يجوز دفع الزكاة إليه؟

روى أبو عبيد بسنده عن إبراهيم بن أبي حفصة قال: سألت سعيد بن جبير قلت: أعطي خالتي من الزكاة؟ قال نعم ما لم تُغْلِق عليها بابًا (انظر: الأموال ص 582 -583: يعني ما يضمها إلى أسرته وعياله): يعنى ما لم يضمها إلى أسرته وعياله .
وروي عن الحسن قال: يضع الرجل زكاته في قرابته ممن ليس في عياله (المرجع السابق).

ولم ير الشافعي وجوب النفقة إلا على الأصول وإن علوا، والفروع وإن نزلوا.
وأضيق منه في إيجاب النفقة مذهب مالك الذي لم يوجب النفقة إلا على الأب لأولاده من صلبه، الذكور حتى يبلغوا ولهذا سئل الشيخ عليش المالكي عن طالب علم بالغ قادر على الكسب؛ هل يجزئ أباه إعطاؤه زكاة ماله؟ فأجاب بجواز ذلك. لسقوط نفقته عنه ببلوغه قادرًا عليه واستحقاقه أخذها. أي لاشتغاله بالعلم. (فتح العالي المالك: 129/1).

والإناث حتى يتزوجن، ويدخل بهن أزواجهن، بخلاف ولد الولد فلا نفقة لهم على جدهم، كما لا تلزمهم النفقة على جدهم. وتلزم الولد النفقة على أبويه الفقيرين كما يلزم الزوج نفقة امرأته ونفقة خادم واحدة لها، ولا تلزم نفقة أخ ولا أخت ولا ذي قرابة ولا ذي رحم محرم منه (انظر المدونة الكبرى: 256/1 – المطبعة الخيرية – الطبعة الأولى سنة 1324هـ).

وإذًا فمن عدا الوالدين الأولاد من الأقارب يجوز دفع الزكاة إليهم في مذهب مالك (المرجع السابق).

ـ المجوزون لإعطاء الزكاة للأقارب:
وذهب آخرون من العلماء إلى جواز دفع الزكاة إلى الأقارب – ما عدا من استثنينا من الوالدين والأولاد – فمنهم من بنى ذلك على أن النفقة لا تجب على القريب لقريبه، إلا من باب البر والصلة لا الإلزام والإجبار.

ومنهم من رأى وجوب النفقة، ولم يرها – مع ذلك – مانعة من إعطاء الزكاة. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، والإمام يحيى، وهو الرواية الظاهرة عن أحمد. قال ابن قدامة: رواها عنه الجماعة. قال في رواية إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق ابن منصور، وقد سأله: يعطي الأخ والأخت والخالة من الزكاة؟ قال يعطي كل القرابة إلا الأبوين والولد، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال: أبو عبيد: هو القول عندي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة” (رواه الخمسة إلا أبا داود)، فلم يشترط نافلة ولا فريضة، ولم يفرِّق بين وارث وغيره. ولأنه ليس من عمودي نسبه، فأشبه الأجنبي (المغني: 648/2).
وقد روى ابن أبي شيبة وأبو عبيد هذا القول عن جماعة من الصحابة والتابعين: فعن ابن عباس قال: يعطي الرجل قرابته من زكاته إذا كانوا محتاجين.
وعن إبراهيم: أن امرأة ابن مسعود سألته عن زكاة حلى لها (وكان يرى في الحلي الزكاة) فقالت: أعطيه بني أخ لي أيتام في حجري؟ قال: نعم.
وقال سعيد بن المسيب: إن أحق من دفعت إليه زكاتي يتيمي وذو قرابتي.
وسئل الحسن: أخي أأعطيه زكاة مالي؟ قال: نعم وحبًا.
وسئل إبراهيم: امرأة لها شيء أتعطي أختها من الزكاة؟ قال: نعم.
وعن الضحاك قال: إذا كان لك أقارب فقراء فهم أحق بزكاتك من غيرهم.
وعن مجاهد قال: لا تُقبل ورحمه محتاجة (انظر هذه الأقوال في مصنف أبي شيبة: 47/4 – 48، الأموال: ص 581 – 582).

ـ موازنة وترجيح:
والذي نرجحه بعد ذكر هذه الأقوال والمذاهب هو الذي ذهب إليه أكثر أهل العلم منذ عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من جواز دفع الزكاة إلى القريب ما لم يكن ولدًا أو والدًا. وهو الذي رجحه أبو عبيد في الأموال.
وحُجَّتنا في ذلك:
أولاً: عموم النصوص التي جعلت صرف الزكاة للفقراء دون تمييز بين قريب وأجنبي مثل آية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) .. وحديث: “تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم” فإن هذه العموميات تشمل الأقارب، ولم يرد مخصص صحيح يخرجهم عنها، بخلاف الزوجة والوالدين والأولاد فقد خصصوا منها بالإجماع الذي ذكره ابن المنذر وأبو عبيد وصاحب البحر، وبالأدلة التي ذكرناها هناك.
وثانيًا: ما ورد في الأقارب خاصة من النصوص المرغبة في الصدقة عليهم، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: “الصدقة على المسكين صدقة، وهى على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة” (رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والدارقطني، وحسنه الترمذي (نيل الأوطار: 189/4)، والصدقة تطلق على الزكاة كما عرفنا، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح” (رواه أحمد والطبراني عن أبي أيوب ورويا نحوه عن حكيم بن حزام، ذكره في مجمع الزوائد وقال: إسناده حسن، وكذلك رواه الطبراني في الكبير عن أم كلثوم بنت عقبة ورجاله رجال الصحيح (الروض النضير: 422/2).والكاشح هو المضمر للعداوة. وكذلك ما رواه الطبراني والبزار عن عبد الله بن مسعود (في الحديث الذي ذكرناه من قبل من رواية الشيخين وأحمد) أن امرأته قالت لبلال: اقرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام من امرأة من المهاجرين ولا تبين له، وقل له: هل لها من أجر في زوجها من المهاجرين ليس له شيء وأيتام في حجرها. وبنو أخيها، أن تجعل صدقتها فيهم؟ فأتى بلال النبي –صلى الله عليه وسلم– فقال: نعم لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة” (رواه الطبراني في الأوسط، ورواه البزار بنحوه، وفيه حجاج بن نصر وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام، ورجال البزار رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد: 116/3 وهو أيضًا في صحيح ابن حبان. (انظر الروض النضير: 422/2). وقد ذكرنا أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل بمنزلة العموم في المقال، كما حقق علماء الأصول.
أما قولهم: إنه بالدفع يجلب إلى نفسه نفعًا، ويسقط عن نفسه فرضًا فهذا حق بالنسبة إلى الزوجة والأولاد والوالدين؛ لأن المنافع بينهم متصلة وهم شركاؤه في ماله، ونفقتهم واجبة عليه وجوبًا بيَّنًا بالكتاب والسنة.
أما بقية الأقارب، فالذي أختاره: أن نفقتهم إنما تلزم القريب إذا لم يكن هناك في مال المسلمين ما يغنيهم: من الزكاة والفيء والخُمس وسائر موارد بيت المال الأخرى، فهنا يُلزم القريب الموسر بالنفقة، ولا يدع قريبه يهلك جوعًا وعريًا. وكذلك إذا لم توجد الحكومة التي تجمع الزكاة، وتقوم بكفالة العيش للفقراء، فإن على القريب الغني أن يكفي قريبه الفقير، ولا يتركه فريسة للعوز والحاجة، ولا حرج عليه أن تتحقق هذه الكفاية كلها أو بعضها مما وجب عليه من زكاة.
لأن الواجب هو كفاية القريب، وسد حاجته، وتفريج كربته، صلة لرحمه، ووفاء بحقه، ولم يرد ما يمنع أن تكون الزكاة من موارد هذه الكفاية. كيف ولو كانت الحكومة هي التي تجبيها لتولت هي الإنفاق على هؤلاء الفقراء من مال الزكاة وغيرها؟ فكأن الفرد المسلم في هذه الحالة نائب عن الإمام أو الدولة في الإنفاق على أقاربه وكفايتهم، من الزكاة التي كان الأصل أن تتولى جمعها وتفريقها عليهم.
على أن من العلماء من لم ير تعارضًا بين لزوم نفقة القريب وإعطائه من الزكاة، فقالوا بوجوب النفقة للأقارب بشروط خاصة، ومع هذا أجازوا دفع الزكاة إليهم.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فقد رأوا أن لزوم النفقة لا يمنع إعطاء الزكاة، وإنما المانع هو اتصال منافع الأملاك بين المؤدي والمؤدى إليه، فلا يتحقق التمليك الذي هو عندهم ركن الزكاة، ويكون المزكي كأنما دفع إلى نفسه قالوا: وهذا لا يتحقق إلا بين الإنسان وأولاده، وآبائه وأمهاته، ولهذا لا تجوز شهادة بعضهم لبعض بخلاف بقية الأقارب؛ فالدفع إليهم يتحقق به التمليك؛ لانقطاع منافع الأملاك بينهم، ولهذا تجوز شهادة بعضهم لبعض (انظر: بدائع الصنائع: 49/2 – 50).
وقال صاحب “الروض النضير” من متأخري الزيدية: “وما ذكروه من التعليل بأن فيه إسقاط ما يلزمه من النفقة المستقبلة، فمع كونه فاسد الاعتبار (لمصادمته الأحاديث التي رغبت في الصدقة على الأقارب) للمانع أن يقول: “صرفه للواجب في القريب لم يسقط شيئًا قد لزمه؛ لأن نفقة القريب إنما تجب وقتًا فوقتًا” (الروض النضير: 423/2).
وقال الشوكاني: الأصل عدم المانع، فمن زعم أن القرابة أو وجوب النفقة مانعان، فعليه الدليل، ولا دليل (نيل الأوطار: 189/4).