هذا المصرف يدلنا بوضوح على أن الزكاة في الإسلام ليست إحسانًا شخصيًا. ولا عبادة مجردة موكولة إلى الأفراد. فإن هذا الصنف من مصارف الزكاة ليس مما يوكل إلى الأفراد في العادة الغالبة. وإنما هو من شأن رئيس الدولة أو من ينيبه عنه، أو أهل الحل والعقد في الأمة.
فهؤلاء هم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها، وتحديد صفات من يؤلفون ومدى ما يبذل لهم وفق مصلحة الإسلام وحاجة المسلمين.

أقسام المؤلفة قلوبهم:

والمؤلفة قلوبهم أقسام ما بين كفار ومسلمين:
( أ ) فمنهم من يرجى بعطيته إسلامه أو إسلام قومه وعشيرته كصفوان بن أمية الذي وهب النبي -صلى الله عليه وسلم- له الأمان يوم فتح مكة. وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره بطلبه، وكان غائبًا فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل أن يسلم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين، وقد أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- إبلاً كثيرة محملة كانت في واد، فقال: هذا عطاء من لا يخشى الفقر.
وروى مسلم والترمذي من طريق سعيد بن المسيب عنه قال: (والله لقد أعطاني النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي) (تفسير ابن كثير: 2/365- طبع الحلبي). وقد أسلم وحسن إسلامه.

ومن هذا القسم ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يسئل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثيرة، بين جبلين من شاء الصدقة. قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة (نيل الأوطار: 4/166 المطبعة العثمانية المصرية- الطبعة الأولى).
( ب ) ومنهم من يخشى شره ويرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه، كما جاء عن ابن عباس أن قومًا كانوا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن أعطاهم من الصدقات مدحوا الإسلام وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا (تفسير الطبري: 14/313).
(جـ) ومنهم من دخل حديثًا في الإسلام، فيعطى إعانة له على الثبات على الإسلام.
سئل الزهري عن “المؤلفة قلوبهم” فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني. قيل: وإن كان غنيًا؟ قال: وإن كان غنيًا (المرجع نفسه ص 314، والمصنف لابن أبى شيبة: 3/223- طبع حيدر آباد).
وكذلك قال الحسن: هم الذين يدخلون في الإسلام (المصنف المذكور، والإكليل للسيوطي ص 119).
وذلك أن الداخل حديثًا في الإسلام قد هجر دينه القديم، وضحى بماله عند أبويه وأسرته، وكثيرًا ما يحارب من عشيرته، ويهدد في رزقه، ولا شك أن هذا الذي باع نفسه وترك دنياه لله تعالى جدير بالتشجيع والتثبيت والمعونة.
( د ) ومنهم قوم من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم، واستشهدوا له بإعطاء أبى بكر -رضى الله عنه- لعدى بن حاتم والزبرقان بن بدر (تفسير المنار: 10/574 – 577- الطبعة الثانية)، مع حسن إسلامهما لمكانتهما في أقوامهما.
(هـ) ومنهم زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم تثبيتهم، وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم (انظر تفسير القرطبي: 8/179 – 181).
( و ) ومنهم قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
( ز ) ومنهم قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم إلا أن يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين، وأرجح المصلحتين، وهذا سبب جزئي قاصر، فمثله ما يشبهه من المصالح العامة (انظر في هذه الأصناف المجموع: 6/196 – 198، وغاية المنتهى وشرحه: 2/141 وما بعدها).
وكل هذه الأنواع تدخل تحت عموم لفظ “المؤلفة قلوبهم” سواء أكانوا كفارًا أم مسلمين.
وقال الإمام الشافعي: المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام، ولا يعطى من الصدقة مشرك يتألف على الإسلام، فإن قال قائل: أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- عام حنين بعض المشركين من المؤلفة، فتلك العطايا من الفيء، ومن مال النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة. واستدل الشافعي بأن الله تعالى جعل صدقات المسلمين مردودة فيهم كما سمى، لا على من خالف دينهم (الأم: 2/61- طبع بولاق). ويشير إلى حديث معاذ وما في معناه: “تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم”.
ونقل الرازي في تفسيره (الجزء السادس عشر ص 111). عن الواحدي قال: إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين، فأما المؤلفة قلوبهم من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات.
وعقب الرازي قائلاً: إن قول الواحدي: “إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين” بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسمًا من الزكاة إليهم، لكننا بينا أن هذا لم يحصل البتة، وأيضًا فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين، بل قال: (المؤلفة قلوبهم) .. وهذا عام في المسلم وغيره. أ هـ.
ونقول: وإذا كانت كلمة “المؤلفة قلوبهم” تشمل الكافر والمسلم، ففيها دليل على جواز تأليف الكافر وإعطائه من الزكاة. وإنما تمنع اختصاصه بذلك.
وقد جاء عن قتادة (تفسير الطبري: 14/214). أن المؤلفة قلوبهم أناس من الأعراب ومن غيرهم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
وقد ذكرنا حديث أنس في الرجل الذي أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- من شاء الصدقة ما جعله يرجع إلى قومه قائلاً: أسلموا فإن محمدًا يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة. والظاهر أنه لم يكن مسلمًا قبل ذلك.
ولا عجب أن يعطى كافر من صدقات المسلمين تأليفًا لقلبه على الإسلام. أو تمكينًا له في صدره، فإن هذا -كما ذكر القرطبي- ضرب من الجهاد. فالمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع عن كفره بإقامة البرهان. وصنف بالقهر والسنان. وصنف بالعطاء والإحسان. والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببًا لنجاته وتخليصه من الكفر (تفسير القرطبي: 8/179).

هل سقط سهم المؤلفة قلوبهم بعد موت الرسول؟

ذهب أحمد وأصحابه إلى أن حكم المؤلفة باق لم يلحقه نسخ ولا تبديل، وبهذا قال الزهري وأبو جعفر الباقر (انظر تفسير الطبري: 14/314 – 316، والمغنى: 2/666). وهو مذهب الجعفرية والزيدية أيضًا (انظر البحر: 2/179، 180، وشرح الأزهار: 1/513، وفقه الإمام جعفر: 2/90).

قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخًا في ذلك.
قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا: الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد، دفع إليه.
ونقل القرطبي عن القاضي عبد الوهاب من المالكية قال: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا.
وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوى الإسلام زالوا، وإن احتيج لهم أعطوا سهمهم. كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيهم، فإن في الصحيح: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) أ هـ.
وفى كتاب “النيل” وشرحه في فقه الإباضية (الجزء الثاني ص 134، 136): هو عندنا على سقوطه، ما دام الإمام قويًا وعنهم غنيًا.. وأجاز التأليف للحاجة، لدفع شر عن المسلمين، أو جلب نفع لهم.
وروى الطبري عن الحسن قال: ليس اليوم مؤلفة (تفسير الطبري: 14/315).
وعن عامر الشعبي قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما ولى أبو بكر -رحمة الله عليه- انقطعت الرشا (تفسير الطبري: 14/215).
وذكر النووي عن الشافعي: أن الكفار إن جاز تأليفهم فإنما يعطون من سهم المصالح من الفيء ونحوه، ولا يعطون من الزكاة؛ لأن الزكاة لا حق فيها للكفار عنده.
وأما المسلمون من المؤلفة، فعنه قولان في إعطائهم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-:
الأول: لا يعطون، لأن الله أعز الإسلام، فأغنى عن التألف بالمال.
والثاني: يعطون، لأن المعنى الذي أعطوا به قد يوجد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وإذا قلنا يعطون.. فمن أين؟.
قولان أيضًا: قيل: من الصدقات، للآية. وقيل: من سهم المصالح من الفيء وغيره، لأن الصرف إليهم من مصلحة المسلمين (انظر في ذلك المهذب وشرحه للنووي (المجموع): 6/197 – 198).
والمذكور في مذهب المالكية قولان: قول بانقطاع سهم المؤلفة بعز الإسلام وظهوره، وقول ببقائه. وقد ذكرنا رأى القاضيين عبد الوهاب وابن العربي (تفسير القرطبي- المرجع السابق، وذكر الخطابي في معالم السنن (2/231): أن سهمهم ثابت يجب أن يعطوه، وكذا ذكر ابن قدامه في المغنى: 2/666).
وفى متن “خليل”: أن حكمه باق، أي لم ينسخ، لأن المقصود من دفع الزكاة إليه ترغيبه في الإسلام لا إعانته لنا، حتى يسقط بنشر الإسلام. وهذا الخلاف في المذهب مفرع -كما قال الصاوي- على القول بأن المؤلف كافر يعطى ترغيبًا له في الإسلام، وهو قول ابن حبيب. وأما القول الآخر -وهو لابن عرفة- أن المؤلف مسلم قريب عهد بالإسلام يعطى منها ليتمكن من الإسلام فحكمه باق اتفاقًا (انظر: حاشية الصاوي على بلغة السالك: 1/232 – 233).
وقال جمهور الحنفية: انتسخ سهمهم وذهب، ولم يعطوا شيئًا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعطى الآن لمثل حالهم.
قال في البدائع: “وهو الصحيح، لإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر -رضى الله عنهما- ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئًا من الصدقات، ولم ينكر أحد من الصحابة -رضى الله عنهم-. فإنه روى أنه لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءوا أبا بكر وسألوه: أن يكتب لهم خطًا (كتابة رسمية) بسهامهم. فأعطاهم ما سألوه، ثم جاءوا إلى عمر وأخبروه بذلك فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز الله دينه، فإن ثبتم على الإسلام. وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف. فانصرفوا إلى أبى بكر فأخبروه بما صنع عمر رضى الله عنهما، وقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ قال: هو إن شاء. ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك عامة الصحابة، فلم ينكروا، فيكون ذلك إجماعًا على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، ولهذا أسماهم الله “المؤلفة قلوبهم” والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة، وأولئك كثير ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عز الإسلام، وكثر أهله واشتدت دعائمه، ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاء. والحكم متى ثبت معقولاً بمعنى خاص، ينتهي بذهاب ذلك المعنى” (بدائع الصنائع: 2/45).
وخلاصة ما ذكره صاحب البدائع يرجع إلى أمرين:
الأول: نسخ الحكم وأن الذي نسخه إجماع الصحابة.
الثاني: أن حكم التأليف ثبت لمعنى معقول، وهو الحاجة إلى المؤلفة، وقد زالت هذه الحاجة بانتشار الإسلام وغلبته. فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته الغائية التي كان لأجلها الإعطاء. فإن الإعطاء كان لإعزاز الدين، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم (رد المحتار: 2/82 نقلاً عن البحر.

إبطال دعوى النسخ:

والحق أن كلا الأمرين غير صحيح، فالنسخ لم يقع، والحاجة إلى تأليف القلوب لم تنقطع.
أما دعوى النسخ بفعل عمر فليس فيه أدنى دليل. فإن عمر إنما حرم قومًا من الزكاة كانوا يتألفون في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورأى أنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، ولم يجاوز الفاروق الصواب فيما صنع. فإن التأليف ليس وضعًا ثابتًا دائمًا. ولا كل من كان مؤلفًا في عصر يظل مؤلفًا في غيره من العصور، وإن تحديد الحاجة إلى التأليف، وتحديد أشخاص المؤلفين، أمر يرجع إلى أولى الأمر وتقديرهم لما فيه خير الإسلام ومصلحة المسلمين.
ولقد قرر علماء الأصول: أن تعليق الحكم بوصف مشتق يؤذن بعلية ما كان منه الاشتقاق، وهنا علق صرف الصدقة بالمؤلفة قلوبهم، فدل على أن تأليف القلوب هو علة صرف الصدقات إليهم، فإذا وجدت هذه العلة -وهى تأليف قلوبهم- أعطوا، وإن لم توجد لم يعطوا.
ومن الذي له حق تأليف هؤلاء أو أولئك أو عدم التأليف؟ إنه ولى أمر المسلمين أولاً. إنه له الحق في أن يترك تألف قوم كان يتألفهم حاكم مسلم قبله، وله الحق أن يترك تأليف القلوب في عهده بالمرة، إذا لم يوجد في زمنه ما يدعو إليه، فإن ذلك من الأمور الاجتهادية التي تختلف باختلاف العصور والبلدان والأحوال، وعمر حين فعل ذلك لم يعطل نصًا ولم ينسخ شرعًا. فإن الزكاة تعطى لمن يوجد من الأصناف الثمانية التي جعلهم الله تعالى أهلها، فإذا لم يوجد صنف منهم سقط سهمه ولم يجز أن يقال: إن ذلك تعطيل لكتاب الله أو نسخ له.
فإذا لم يوجد صنف “العاملين عليها” لعدم قيام حكومة مسلمة، تجمع الزكاة وتوزعها على مستحقيها، وتوظف من يقوم بذلك، فقد سقط سهم العاملين عليها.
وإذا لم يوجد صنف “في الرقاب” كما في عصرنا الذي ألغى الرق الفردي، فقد سقط هذا السهم. ولا يقال في سقوط هذا السهم أو ذاك: إنه نسخ للقرآن أو تعطيل للنص (وبهذا نتبين بطلان ما يقوله بعض المعاصرين من جواز تعطيل النصوص أو مخالفتها إذا اقتضت ذلك مصلحة، متخذين من موقف عمر من المؤلفة قلوبهم، تكأة لهم في دعواهم العريضة. من ذلك ما ادعاه -صبحي محمصاني في “فلسفة التشريع” ص 178- أن عمر لم يتأخر حتى عن مخالفة النصوص إذا اقتضت السياسة الشرعية أو مصلحة المسلمين ذلك، واستدل بموضوع المؤلفة.. ومن ذلك ما كتبه الأستاذ محمود اللبابيدي في مجلة “رسالة الإسلام” التي كانت تصدر عن دار التقريب بين المذاهب في القاهرة -في مقال عن “السلطة التشريعية في الإسلام” وذهب إلى أن الأمة ممثلة في هيئة شوراها من سلطتها أن “تجمد” بعض النصوص أو تخالفها إذا رأت في ذلك مصلحة، واستند إلى فعل عمر.. وما شابهه من وقائع. ومحال أن يعطل عمر كتاب الله أو يخالفه عمدًا، وإنما وجهه ما ذكرناه.
وقد ثار علماء الأزهر لمقال اللبابيدي، وردوا عليه في مجلة الأزهر، كما رد عليه المرحوم الشيخ محمد محمد المدني في رسالة له “بحث على بحث” طبعت في القاهرة).
وإذن فما صنعه عمر ليس نسخًا لحكم إعطاء المؤلفة قلوبهم بوجه من الوجوه فضلاً عن أن يكون إجماعًا على ذلك، وكذلك قول الحسن والشعبي: “ليس اليوم مؤلفة” ليس قولاً بالنسخ بحال، وإنما هو إخبار عن الواقع في زمنهم.
إن النسخ إبطال حكم شرعه الله، وإنما يملك الإبطال من يملك التشريع. وليس ذلك إلا لله عز وجل، عن طريق الرسول الموحى إليه، ولهذا لا نسخ إلا في عصر الرسالة ونزول الوحي. وإنما يعرف ذلك بالنص عليه من الشارع نفسه، أو بتعارض نصين ثابتين تعارضا تامًا لا يستطاع معه الترجيح بينهما بوجه من الوجوه، وعرف تاريخ كل منهما. فلا نجد بدًا من القول بنسخ المتأخر للمتقدم. فهل في مسألتنا شيء من ذلك؟ هل هنالك نص من قرآن أو سنة عارض النص على المؤلفة قلوبهم؟ فضلاُ عن نص صرح بنسخه.
إن الإجابة عن ذلك بالنفي الجازم بلا ريب، فكيف يدعى نسخ حكم نصت عليه آية صريحة من كتاب الله، وانقضى عصر الرسالة وهو محكم معمول به؟.
وقد قال الشاطبي في مثل هذا المقام: “إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق، ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر، لأنه رفع للمقطوع بالمظنون” (الموافقات: 3/64).
وإذا كان خبر الواحد بإجماع المحققين لا ينسخ القرآن، مع أنه خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف ندعى نسخه بقول صحابي أو عمله؟ وهو عند التأمل لا يحمل أي معنى من معاني النسخ.
وقبل الشاطبي قال ابن حزم: “لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ، إلا بيقين. لأن الله عز وجل يقول: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (النساء: 64).. وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) (الأعراف: 3). فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه، ففرض اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه. وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله وإلا فهو مفتر مبطل، ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة. وهذا خروج عن الإسلام. وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه” أ هـ (الإحكام في أصول الأحكام- الباب العشرين. فصل في: كيف يعلم المنسوخ: 1/458 طبع الإمام بمصر).
وإذن فالصحيح بل الصواب (الصحيح -من الآراء- مقابلة: الضعيف، والصواب مقابلة: الخطأ، والأصح مقابله: الصحيح): أن هذا السهم باق، لم يلحق حكمه نسخ ولا تعطيل. فقد نصت عليه آية صريحة من سورة التوبة وهى من أواخر ما نزل من القرآن.
قال أبو عبيد: “إن الآية محكمة لا نعلم لها نسخًا من كتاب ولا سنة”.
فإذا كان قوم هذه حالهم: لا رغبة لهم في الإسلام إلا للنيل، وكان في ردتهم ومحاربتهم إن ارتدوا ضرر على الإسلام لما عندهم من العز والمنعة. فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك، لخلال ثلاث:
إحداهن: الأخذ بالكتاب والسنة.
والثانية: البقيا على المسلمين.
والثالثة: “إنه ليس بيائس منهم إن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فيه رغبتهم” (الأموال ص 607).
وقال ابن قدامة في المغنى: مؤيدًا مذهب أحمد في بقاء سهمهم في مصارف الزكاة: “لنا كتاب الله وسنة رسوله: فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء) وكان يعطى المؤلفة كثيرًا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.
“ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن النسخ إنما يكون بنص، ولا يكون النص بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وانقراض زمن الوحي. ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن، وليس في القرآن نسخ لذلك، ولا في السنة. فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره؟ على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك بها قياس، فكيف يتركون به الكتاب والسنة؟.
“قال الزهري: لا أعلم شيئًا نسخ حكم المؤلفة (الحنفية مختلفون في تعيين الناسخ الذي نسخ حكم المؤلفة وهو ثابت بالنص القرآني القاطع.. فبعضهم ادعى أنه الإجماع. وحاول أن يجعل من موقف عمر من المؤلفة في زمنه إجماعًا، وهيهات، فقد علمت ما فيه، وبعضهم بحث عن مستند لهذا الإجماع المدعى زعم أنه هو الناسخ. ثم اختلفوا في تعيين هذا المستند. فجعله ابن نجيم في “البحر” الآية التي روى أن عمر ذكرها في مواجهة المؤلفة، وهى قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) من سورة الكهف (آية: 29) قال ابن عابدين: وإنما لم يجعل الإجماع ناسخًا، لأنه خلاف الصحيح، لأن النسخ لا يكون إلا في حياته -صلى الله عليه وسلم- والإجماع لا يكون إلا بعده”، وبعضهم جعل المستند حديث إرسال معاذ إلى اليمن، وأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم ويردها على فقرائهم. (انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 2/83- طبع استانبول).
والحق أن كل هذا تمحل لا يجوز نسخ نص قاطع بمثله. فآية الكهف: (وقل الحق من ربكم) مكية بيقين، فكيف يستند إليها في نسخ جزء من آية مدنية نزلت بعدها بسنين طويلة؟! وأين التعارض في الآيتين حتى تنسخ إحداهما الأخرى؟! ومثل ذلك حديث معاذ، فليس فيه إلا أن الزكاة من الأمة وإليها، تؤخذ من أغنيائها وترد على فقرائها. وليس كضرائب الملوك السابقين، حيث كانت تؤخذ من الفقراء والكادحين، لتصرف على أبهة الملك وحاشيته. ولو كان ذكر الفقراء هنا ينفى المؤلفة لنفى بقية الأصناف من العاملين عليها والرقاب والغارمين وغيرهم، ولم يقل بذلك أحد.
ولهذا قال علاء الدين بن عبد العزيز من الحنفية: الأحسن أن يقال: هذا تقرير لما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حيث المعنى. وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع. ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع. وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين، والإعزاز هو المقصود. وهو باق على حاله، فلم يكن ذلك نسخًا… قال: وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة، فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة، والاستنصار في زمنه -صلى الله عليه وسلم- كان بالعشيرة، وبعده بأهل الديوان، فإيجابها عليهم لم يكن نسخًا، بل كان تقريرًا للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الاستنصار (أ هـ) واستحسنه في النهاية. ومقتضى هذا التوجيه أن الإسلام إذا ضعف -كما في عصرنا- يجوز إعزازه بالإعطاء. ولا يقول بذلك الحنفية. ولذلك تعقبه ابن الهمام بأن ما قاله لا ينفى النسخ، لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتًا وقد ارتفع. (انظر: تفسير الآلوسي: 3/327).
“على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم، وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم، فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، فكذلك جميع الأصناف: إذا عدم منهم صنف في بعض الأزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة، وإذا وجد عاد. كذا ههنا” (المغنى: 2/666).

الحاجة إلى تأليف القلوب لم تنقطع:

وأما قولهم إن الحاجة إلى تأليف القلوب قد زالت بانتشار الإسلام، وغلبته، وظهوره على الأديان الأخرى فهذه الدعوى مردودة لأسباب ثلاثة:
1- ما قاله بعض المالكية: إن العلة في إعطاء المؤلف من الزكاة ليست إعانته لنا، حتى يسقط ذلك بفشو الإسلام وغلبته، بل المقصود من دفعها إليه ترغيبه في الإسلام، لأجل إنقاذ مهجته من النار (حاشية الصاوي على بلغة السالك: 1/232).
فهو يرى في هذا البقاء وسيلة من وسائل الدعوة، قد تجدي عند بعض الناس، وتقربهم من الإسلام وتنقذهم من الكفر، وواجب المسلمين ألا يدخروا وسيلة تعينهم على هداية البشر وإنقاذهم من ظلمات الجاهلية في الدنيا، ومن عذاب النار في الآخرة. وقد يدخل الرجل الإسلام للدنيا ثم يحسن إسلامه بعد ذلك. روى أبو يعلى عن أنس بن مالك قال: (إن كان الرجل ليأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسلم للشيء من الدنيا، لا يسلم إلا له، فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها) وفى رواية: (إن كان الرجل ليسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- الشيء للدنيا فيسلم له…) (قال في “مجمع الزوائد”: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح: 3/104). الحديث بمعناه. وهذا إذا مشينا على أن المؤلف كافر يعطى ليرغب في الإسلام، وليس كل مؤلف كذلك فمن المؤلفة من يدخل في الإسلام ويترك دينه القديم، فيتعرض للاضطهاد والحرمان والمصادرة من أسرته وأهل دينه. فمثل هذا يعطى تشجيعًا وتأييدًا، حتى يتمكن من الإسلام، وترسخ قدمه فيه.
2- إن هذه الدعوى مبنية على ما قال قوم: إن التأليف لا يكون إلا عند ضعف الإسلام وأهله، واشترط آخرون أن يكون المؤلف فقيرًا محتاجًا. وكل هذا تقييد للنصوص المطلقة بلا حجة، ومخالفة لحكمة الشرع بلا مبرر. وفى عصرنا نرى أقوى الدول هي التي تتألف الدول الصغيرة والشعوب المحدودة الطاقات، كما ترى في معونة الولايات المتحدة لدول أوروبا، وبعض دول الشرق النامية. وما أحسن ما قال الإمام الطبري في ذلك:
“إن الله جعل الصدقة في حقيقتين:
“إحداهما: سد خلة المسلمين، والأخرى: معونة الإسلام وتقويته.
“فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغنى والفقير، لأنه لا يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيًا كان أو فقيرًا، للغزو لا لسد خلة، وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء استصلاحًا بإعطائهموه أمر الإسلام، وطلب تقويته وتأييده.
“وقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعطى منهم في الحال التي وصفت” (تفسير الطبري بتحقيق شاكر: 14/316).
3- إن الحال قد تغيرت، وأدارت الدنيا ظهرها للمسلمين فلم يعودوا سادة الدنيا كما كانوا، بل عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، وتداعت على أهله الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وقذف في قلوبهم الوهن، ولله عاقبة الأمور. فإن كان الضعف هو العلة التي تبيح تأليف القلوب وإعطاء المؤلفة من الزكاة فقد وقع، وجاز الإعطاء كما قال ابن العربي وغيره (على أن الحنفية أنفسهم قالوا: إن مجرد التعليل بكون التأليف معللاً بقلة انتهت، لا يصلح دليلاُ على نفى الحكم المعلل، لأن الحكم لا يحتاج في بقائه إلى بقاء علته، لاستغنائه في البقاء عنها، لما علم في الرق والاضطباع والرمل، فلا بد من دليل يدل على هذا الحكم مما شرع مقيدًا بقاؤه ببقاء العلة. قالوا: لكن لا يلزمنا تعيينه في محل الإجماع، فنحكم بثبوت الدليل وإن لم يظهر لنا. (انظر رد المحتار: 2/82 – 83- طبع استانبول) وعلى كل حال لم يستطع الحنفية هنا أن يتخلصوا من ضعف موقفهم، برغم محاولاتهم الجاهدة)!.

من له حق التأليف والصرف إلى المؤلفة؟

إن جواز التأليف وتقدير الحاجة إليه مرجعه إلى أولى الأمر من المسلمين. ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء هم الذين يتولون ذلك. وهذا هو الموافق لطبائع الأمور. فإن هذا مما يتصل عادة بسياسة الدولة الداخلية والخارجية. وما تمليه عليها مصلحة الدين والأمة (في شرح الأزهار (1/513): أن التأليف جائز للإمام فقط لمصلحة دينية، وأما لغيره فلا يجوز، وأجاز بعض الزيدية لرب المال أن يتألف). وعند إهمال الحكومات لأمر الزكاة وأمر الإسلام عامة -كما في عصرنا- يمكن للجمعيات الإسلامية أن تقوم مقام الحكومات في هذا الشأن.
وإذا لم يوجد حكومة ولا جماعة، وكان لدى الفرد المسلم فضل من زكاته، فهل له أن يتألف بها كافرًا؟.
الرأي أنه لا يجوز له ذلك إلا إذا لم يجد مصرفًا آخر، كبعض المسلمين الذين يعيشون في غير دار الإسلام، ولا يجدون من يستحق الزكاة من المسلمين، ولكن رأوا من الكفار من إذا أعطوه استمالوا قلبه للإسلام ولموالاة المسلمين فلا بأس بإعطائه من الزكاة في هذه الحال للضرورة. مع أن الأولى في مثل هذه الظروف رصد الزكاة لنشر الإسلام، إن لم يمكن إرسالها إلى بلاد الإسلام.

أين يصرف سهم المؤلفة في عصرنا؟

وإذا كان حكم المؤلفة قلوبهم وإعطائهم من الزكاة باقيًا محكمًا لم يلحقه نسخ ولا إلغاء، فكيف نصرف هذا السهم المخصص لهم في عصرنا؟ وأين نصرفه؟.
إن الجواب عن هذا واضح مما ذكرناه من بيان الهدف الذي قصده الشارع من وراء هذا السهم. وهو استمالة القلوب إلى الإسلام أو تثبيتها عليه، أو تقوية الضعفاء فيه، أو كسب أنصار له، أو كف شر عن دعوته ودولته. وقد يكون ذلك بإعطاء مساعدات لبعض الحكومات غير المسلمة لتقف في صف المسلمين، أو معونة بعض الهيئات والجمعيات والقبائل ترغيبًا لها في الإسلام أو مساندة أهله، أو شراء بعض الأقلام والألسنة للدفاع عن الإسلام وقضايا أمته ضد المفترين عليه.
كما أن الذين يدخلون في دين الله أفواجًا كل عام لا يجدون من حكومات البلاد الإسلامية أي معاونة أو تشجيع. والواجب أن يعطوا من هذا السهم ما يشد أزرهم ويسند ظهرهم. كما جاء عن الإمام الزهري والحسن البصري..
إن الإسلام بما فيه من وضوح وأصالة وملاءمة للفطرة السليمة والعقل الرشيد، ينشر نفسه بنفسه، في كثير من الأقطار. ولكن الذين يعتنقون الإسلام لا يجدون من الرعاية المادية والتوجيهية ما يمكنهم من التبصر في هذا الدين والانتفاع بهداه، ويعوضهم عن بعض ما قدموه من تضحيات، وما لقوه من اضطهاد من عشائرهم أو حكوماتهم.
وكثير من الجمعيات الإسلامية في بلدان شتى تحاول أن تسد هذه الثغرة، ولكنها لا تجد المدد اللازم، والعون الكافي.

لقد كان الإسلام في موقف الهجوم فأصبح اليوم في موقف الدفاع، فهو ينتقص من أطرافه ويغزى في عقر داره.
لهذا كان من أولى الناس بالتأليف في زماننا -كما نبه السيد رشيد رضا رحمه الله- قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استبعاد جميع المسلمين، وفى ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهمًا للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام. ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية… أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟! (تفسير المنار: 10/574 – 575- الطبعة الثانية).

جواز التأليف من غير مال الزكاة:

وبعد هذا كله فلسنا نحتم أن يكون كل ما يرصد لتأليف القلوب من الزكاة وحدها، فإن في موارد بيت المال الأخرى متسعًا للإسهام في هذا الشأن مع الزكاة أو الاستقلال به. وخاصة إذا كان المستحقون للزكاة من الأصناف الأخرى أشد حاجة وأوفر عددًا، فهنا يعمل بما جاء عن الشافعي وغيره، وهو إعطاء المؤلفة من سهم المصالح، ومرد ذلك إلى رأى ولي الأمر العادل، وتقدير أهل الرأي، ومشورة أهل الشورى في الأمة.