يقول في هذه المسألة فضيلة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق:

الروح هي القوة التي تُحدث الحياة في الكائنات الحيَّة مِن نبات وحيوان وإنسان، وقد غلبت على ما به حياة الحِسِّ والحركة، والعقل والتفكير، وأُضيفت إلى الحيوان والإنسان.

ولم يرِد في الدين نصٌّ واضح صريحٌ يشرح حقيقتَها، ويُحدد وُجودها، وكانت في نظَر الدين كغيرها من سائر الحقائق الكونية تُركت للبحث البشريِّ يبحث عنها، ويُصيب أو يُخطئ على حدٍّ سواء.

ولقد خاض الإنسان قديمًا وحديثًا في البحث عن حقيقتها وأثرت عنه فيها أقوالٌ وآراء.

قال فيها الإمام الآلوسي بعد أن ذكر جملة منها: “وقيل وقيل إلى نحو ألْف قوْلٍ، ثم قال: والمُعَوَّل عليه عند المُحققين قولانِ، ذكرهما:

واختار أولهما، وهو أن الروح جسمٌ نُوراني عُلوِيٌّ حيٌّ، مُخالف بالماهية لهذا الجسم المَحسوس، سار فيه سريانَ الماء في الورد، لا يقبل التحلُّل ولا التفرُّق، يفيض على الجسم الحياة وتوابعها ما دام الجسم صالحًا لقَبول الفيْض، وقد أيَّده ابن القيم، وقال: إنه الصواب ولا يصحُّ غيره، وعليه دلَّ الكتاب والسُّنَّة وإجماع الصحابة، وأدلَّة العقل والفِطْرة، وبرهنَ عليه بما يزيد عن مائة دليلٍ.

والذي أُحبُّ أن أُقَرِّرَهُ هنا ـ بهذه المناسبة فيما أَخبر الله به من شُئون الغيب التي لم يتصل بها بيانٌ قاطع عن الرسول مِن الدابَّة، والصُّور، ونحوهما ـ هو:
-أنَّا نُؤمن به على القدْر الذي أخبر اللهُ به دون صَرْفٍ للفظ عن معناه، ودون زيادة عمَّا تضمَّنه الخبر الصادق.

-فنُؤمن ـ مثلًا ـ بأنه سيكون في آخر الدنيا صُورٌ يُنفخ فيه، فتكون صَعْقَةً، ثم يُنفخ فيه أُخْرى، فيكون البعث؛ أمَّا الخَوْض في حقيقته ومقداره وكيفية النفْخ فيه، أو حَمْله على أنه تَمثيل لسرعة إفناء العالَم وبعثه بسرعة النَّفْخ المعروفة للناس، فإنه رجْمٌ بالغيب، وتَقَوُّلٌ على الله بغير حق.

-ونُؤمن بأن القرآن ـ كما أخبر الله ـ في لوحٍ مَحفوظ، أما الخوْض في حقيقته أو تأويله بأنه تمثيل لِصَوْنِهِ عن التغيير والتبديل؛ فإنه رجمٌ بالغيب، وتقوُّل على الله بغير حق

وكما اختلف العلماء في حقيقتها هكذا، اختلفُوا ـ أيضًا ـ في قِدَمِهَا وحُدوثها، وفي مُستقرها قبل اتصالها بالأجسام، والقائلون بحُدوثها اختلفوا ـ أيضًا ـ في زمن حُدوثها، هل حدثت قبل الأجسام أو بعد الأجسام؟ وليس في النصوص أكثر من أن نَفْخَهَا في الجسم يكون بعد تسوِيته، والمَفهوم من نفْخها تحصيل آثارِها في الجسم.

وكما اختلفوا في هذا اختلفوا ـ أيضًا ـ في موْتها وبقائها، وفي مُستقرها بعد مُفارقة الأبدان.

والذي تُرشد إليه الآثار الدينية أنها تخرج من بدَن الإنسان فيكون الموْت، وأنها تبقَى ذات إدراكٍ، تسمع السلام عليها، وتعرف مَن يزور قبْر صاحبه، وتُدرك لذَّة النعيم وألَم الجحيم، وأن مَقرَّها يختلف بعد مُفارقة البدَن بتفاوُت درجاتها عند الله.
وعلى رغم كل هذا فلا تزال حقيقتُها من الغيْب الذي لم يكشفه الله للإنسان، وهي في ذلك ككثير مما يَنتفع الإنسان بآثاره دون أن يعرف كُنْهَهُ.

وباب البحث عن حقيقتها مفتوح لم يمنع منه نصٌّ دينيٌّ.

ولا حُجَّةَ للقائلين بحُرمة البحث عنها في قوله ـ تعالى ـ: (ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي). (الآية: 85 من سورة: الإسراء). فقد رجَّح بعض العلماء أن المراد منها في الآية نفسه، وقد سمَّاه اللهُ رُوحًا (وكَذَلكَ أَوْحَيْنَا إليكَ رُوحًا مِن أَمْرِنَا). (الآية: 52 من سورة: الشورى) وسابِقُ الآية ولاحقُها يُرشد إلى صحة هذا الرأي.
وإذنْ فلا يتعيَّن أن يكون المَسئول عنه هو روح الحياة، على أنه لو كان هو روح الحياة فليس في الآية أكثر مِن أنها مِن أمر الله، وهو لا يمنَع البحثَ عن حقيقتها.

وكما لم يَرِدْ نَصٌّ في شيء من ذلك كله، لم يرد شيء فيما يختصُّ بتحضيرها وتَسْخيرها لدعوة الإنسان، كما لم يدلّ عليه حِسٌّ مَوثوق به، أو تجربة صادقة، وكل ما نسمعه في ذلك لا يخرج عن مَظاهر خداعٍ وإلْهَاءٍ بالخَيَالاتِ لا يلبث أن ينكشف أمرُه.

وإذن فنحن في حِلٍّ من رفضه إلى أن يقوم الدليل على صِدْقِه.

وحسْب المؤمن في إيمانه أن يقف عند ما أخبر الله به، وصحَّ عن رسوله، وليس عليه أن يُحمِّل نفسه عقيدةً أو رَأْيًا لا يتوقف عليه صحة الإيمان.