من رضيت أن يكون مهرها حفظ زوجها سورا من القرآن فلها ذلك، وقد حدث هذا أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما رجحه غير واحد من المحققين، ودلت عليه السنة، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء من اشتراط كون الصداق مالا أو منفعة، وتحديد هذا المال بعشرة دراهم أو ثلاثة مما لا يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا قول أحد من الصحابة .

يقول الشيخ سيد سابق– صاحب كتاب فقه السنة – رحمه الله-:

أخرج البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت : إني وهبت نفسي لك فقامت طويلا فقال رجل : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال هل عندك من شيء تصدقها ؟ فقال ما عندي إلا إزاري فقال رسول الله إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك فالتمس شيئا قال لا أجد . قال التمس ولو خاتما من حديد . فالتمس فلم يجد شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجتكها بما معك من القرآن) متفق عليه .

دلت هذه الأحاديث على جواز جعل المهر شيئا قليل، وعلى جواز جعل المنفعة مهرا، وإن تعلم القرآن من المنافع، وقد قدر بعض الفقهاء أقل المهر بعشرة دراهم، وقدره بعضهم بثلاثة، وهذا التقدير لا يستند إلى دليل يعول عليه، ولا حجة يعتد بها .

قال الحافظ ابن حجر: وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء .
وقال ابن القيم تعليقا على الأحاديث السابقة:-

تضمنت هذه الأحاديث أن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها جاز ذلك وكان يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صداقها كما إذا جعل السيد عتقها صداقها وانتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها وهذا هو الذي اختارته أم سليم من إسلام أبي طلحة وبذلها نفسها له إن أسلم وهذا أحب إليها من المال الذي يبذله الزوج فإن الصداق شرع في الأصل حقا للمرأة تنتفع به، فإذا رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن كان هذا من أفضل المهور وأجلها، فما خلا العقد عن مهر وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم أوعشرة من النص والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصا وقياسا .
وليس هذا مستويا بين هذه المرأة وبين الموهوبة التي وهبت نفسها للنبي وهي خالصة له من دون المؤمنين فإن تلك وهبت نفسها هبة مجردة عن ولي وصداق بخلاف ما نحن فيه فإنه نكاح وصداق وإن كان غير مالي فإن المرأة جعلته عوضا عن المال لما يرجع إليها من منفعة .
ولم تهب نفسها للزوج هبة مجردة كهبة شيء من مالها بخلاف الموهوبة التي خص بها رسوله صلى الله عليه وسلم .

هذا مقتضى هذه الأحاديث وقد خالف في بعضه من قال لا يكون الصداق إلا مالا ولا يكون منافع أخرى، ولا علمه ولا تعليمه صداقا كقول أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه، ومن قال لا يكون أقل من ثلاثة كمالك وعشرة دراهم كأبي حنيفة، وفيه أقوال أخر شاذة لا دليل عليها من كتاب سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب. :

ومن ادعى في هذه الأحاديث التي ذكرناها اختصاصها بالنبي أو أنها منسوخة أو أن أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل والأصل يردها وقد زوج سيد المدينة من التابعين سعيد بن المسيب ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد بل عد في مناقبه وفضائله وقد تزوج عبدالرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم وأقره النبي ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع . انتهى .

وقال ابن قدامة في المغني :-
وقد قيل : معناه أنكحتكها بما معك من القرآن أي زوجتكها لأنك من أهل القرآن كما زوج أبا طلحة على إسلامه فروى ابن عبد البر بإسناده عن أنس أن أبا طلحة أتى أم سليم يخطبها قبل أن يسلم , فقالت : أتزوج بك وأنت تعبد خشبة نحتها عبد بنى فلان ؟ إن أسلمت تزوجت بك . قال فأسلم أبو طلحة , فتزوجها على إسلامه . انتهى .

وقال الحافظ ابن حجر:–
وقال عياض: يحتمل قوله ” بما معك من القرآن ” وجهين أظهرهما أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا معينا منه ويكون ذلك صداقها وقد جاء هذا التفسير عن مالك، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة ” فعلمها من القرآن ” كما تقدم، وعين في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلمها وهو عشرون آية .
ويحتمل أن تكون الباء بمعنى اللام أي لأجل ما معك من القرآن فأكرمه بأن زوجه المرأة بلا مهر لأجل كونه حافظا للقرآن أو لبعضه، ونظيره قصة أبي طلحة مع أم سليم وذلك فيما أخرجه النسائي وصححه من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال ” خطب أبو طلحة مع أم سليم، فقالت والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسليم فذاك مهري ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها “.
وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن عبيد الله بن أبي طلحة عن أنس قال ” تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، فذكر القصة وقال في آخره: فكان ذلك صداق ما بينهما ترجم عليه النسائي ” التزويج على الإسلام ” ثم ترجم على حديث سهل ” التزويج على سورة من القرآن ” فكأنه مال إلى ترجيح الاحتمال الثاني .
ويؤيد أن الباء للتعويض لا للسببية ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي من حديث أنس ” أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من أصحابه: يا فلان هل تزوجت؟ قال: لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال: أليس معك قل هو الله أحد ” الحديث .
واستدل الطحاوي للقول الثاني من طريق النظر بأن النكاح إذا وقع على مجهول كان كما لم يسم فيحتاج إلى الرجوع إلى المعلوم، قال: والأصل المجمع عليه لو أن رجلا استأجر رجلا على أن يعلمه سورة من القرآن بدرهم لم يصح لأن الإجازة لا تصح إلا على عمل معين كغسل الثوب أو وقت معين، والتعليم قد لا يعلم مقدار وقته، فقد يتعلم في زمان يسير وقد يحتاج إلى زمان طويل، ولهذا لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن لم يصح، قال: فإذا كان التعليم لا تملك به الأعيان لا تملك به المنافع .