من حج حجة الإسلام، وكان عنده فضل مال، فإن كان بوسعه تيسير الحج لغير القادرين وفي نفس الوقت لديه ما ينفقه على الفقراء والمحتاجين، فهذا خير وقد جمع بين الحسنيين، أما إذا كان لا يستطيع إلا أن ينفق في سبيل واحد، فلا شك أن الإنفاق على الفقراء واليتامى والمحتاجين والمجاهدين أفضل من تيسير الحج لغير القادرين، وهذا ما يقتضيه فقه الأولويات في العبادات.
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور عجيل النشمي:
الموضوع يتعلق بجهتين:
1 – باذل المال لمن يحج به.
2 – ومن يتسلم المال للحج.
فالذي يُعرض عليه أن يتسلم مبلغاً من المال من هذه الجهة الخيرية التي تنوب عن صاحب المال، لا يلزمه أن يأخذ المبلغ، لأن الشارع لم يوجب الاستطاعة عليه، بمعنى أن الشارع لم يطلب من المسلم أن يجهد نفسه ليكون مستطيعاً فيؤدي الحج، وقد يكون في الإلزام بأخذ المال مِنَّـة عليه، فلا يلزمه حينئذ ولا يعتبر مستطيعاً، وهذا رأي الإمام أحمد بن حنبل.
وقال الشافعي: إذا بذل له ما يتمكن به من الحج لزمه الحج، لأنه حينئذٍ أصبح مستطيعاً من غير مِنَّـة، ولا يلحقه ضرر فيلزمه الحج، والذي يترجح هنا: أن أخذ المال لا يلزمه إن كان فيه مِنَّـة أو نحوها، فإن لم يكن فيه ذلك ـ وهذا يختلف من شخص إلى آخر ـ وتسلم المال لزمه الحج.
أما بالنسبة لمن دفع المال ليحج به غيره لا على وجه النيابة عنه، بل هو متصدق بالمال، ويملكه لمن يحج به، فهذا عمل طيب وله الأجر إن شاء الله، لكن بالنسبة لتقرير الأفضلية، فإن كان هذا الباذل للمال قادراً على أن يجمع بين بذل المال لمن يحج لنفسه، والإنفاق في أوجه الخير للفقراء، والمساكين، والغارمين، ونحوهم، فالجمع هو الأفضل، وأما إن كان ينوي فعل شيء واحد وهو بذل المال لمن يحج، أو لا يقدر إلا على واحد، إما: دفعها لمن يحج وإما إنفاقها في أوجه الخير، فينبغي النظر حينئذٍ في الأولويات، فالإنفاق هو الأولى، ويقدم على تيسير الحج للغير.
ويُروى في ذلك ما قاله أبو النصر التمار: أن رجلاً جاء يودع بشر ابن الحارث فقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء، فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم، قال: فأي شيء تبتغي بحجك؟: تزهداً أم اشتياقاً إلى البيت، أم ابتغاء مرضاة الله تعالى؟ قال: ابتغاء مرضاة الله، قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى، أتفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحداً فافعل، فإن إدخال السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرتك (إحياء علوم الدين للغزالي 3- 397).
ويروى أن عبدالله بن المبارك خرج إلى الحج فاجتاز بعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على المزبلة، وسار أصحابه أمامه، وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة، وأخذت ذلك الطائر الميت، ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء ابن المبارك وسألها عن أمرها، وأخذ الطائر الميت، فاستحيت أولاً، ثم قالت: أنا وأمي هنا وليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وكان لنا والد ذو مال عظيم فأُخذ ماله وقُتل لسبب من الأسباب، ولم يبق عندنا شيء نتبلغ به أو نقتات، فلما سمع ذلك ابن المبارك دمعت عيناه، وأمر برد الأحمال والمؤونة للحج، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار، فقال له: ابق لنا عشرين ديناراً تكفينا لإيابنا، وأعط الباقي إلى هذه المرأة المصابة فوالله لقد أفجعتني بمصيبتها، وإن هذا أفضل عند الله من حجنا هذا العام، ثم قفل راجعاً، ولم يحج.